صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    فلسطين.. طائرات الاحتلال تنفذ غارات على مخيم البريج وسط قطاع غزة    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    طلاب الشهادة الإعدادية بالإسماعيلية يؤدون امتحان مادتي العلوم والتربية الفنية    الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات كثيفة شرقي مدينة رفح الفلسطينية جنوبي قطاع غزة    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    تفاصيل طقس الأيام المقبلة.. ظاهرة جوية تسيطر على أغلب أنحاء البلاد.. عاجل    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: 700 مستشفى قطاع خاص تشارك في منظومة التأمين الصحي الحالي    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: لا حلول عسكرية في غزة.. يجب وقف الحرب والبدء بحل الدولتين    مفاجأة.. شركات النقل الذكي «أوبر وكريم وديدي وإن درايفر» تعمل بدون ترخيص    الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    الاحتلال يعتقل الأسيرة المحررة "ياسمين تيسير" من قرية الجلمة شمال جنين    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    على باب الوزير    «حماني من إصابة قوية».. دونجا يوجه رسالة شكر ل لاعب نهضة بركان    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاتب يسبح عكس الأتجاه
استعادة وحيد النقاش
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 11 - 2015

بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، تنفست كثير من الأصوات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي كانت تعاني بشكل واسع في العهد السابق لقيام الثورة، وعلي المستوي الثقافي والإبداعي بالتحديد وجد المثقفون اليساريون، وكأنهم علي موعد سابق مع الروح الجديدة التي بدأت تنتعش وتنمو بقوة، ففي القصة القصيرة دخل المجال سهم يوسف إدريس القوي في قلب الحياة الثقافية، وعلي مستوي الشعر كانت أصوات محمود حسن إسماعيل وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وجيلي عبد الرحمن وعبد الوهاب البياتي وغيرهم، وماشابههم تتداخل وتشتبك، وربما كان صلاح الدين عبد الصبور لم تنتبه لخطورة صوته الحالة الثقافية آنذاك، لأن الاهنام البالغ كان مشدودا نحو الإبداع الذي يشتبك مع ويغني للشعارات المرفوعة بأشكال مختلفة.
وربما يكون نقاد المرحلة الواقعيون بالنكهة الماركسية، عزفوا كثيرا وبقوة علي أوتار الواقعية المطروحة في أسواق العالم الاشتراكي، ومن المؤكد أن العزف كان علي وتر واحد، ذلك الوتر الذي يرقص بسذاجة علي نغمات الطبقات الشعبية والكادحة، وعلي أحلام المستقبل السعيدة، ظنّا بأن الإبداع لابد أن يكون سلاحا نافذا في المعارك المنصوبة بين الشعوب الناهضة من ناحية، وبين الاستعمار والفقر والجهل، إلي آخر سلسلة الأعداء التاريخيين والأبديين للإنسانية.
والذي يراجع معارك ذلك العصر الخمسيني الذهبي، سيلاحظ أن معارك ضارية كانت منصوبة بين جميع الأطراف، ولكن صوت الواقعية كان هو الأعلي والأحّد والأمضي والأكثر جذبا لمعظم الأطراف، فعندما يكتب طه حسين مقالا عنوانه "واقعيون"، ويسخر من هؤلاء الذين يعملون علي إعلاء شأن الجانب المادي وعلاقاته وهواجسه في الإنسان، ويتجاهلون كافة الجوانب الروحية فيه، نجد كثيرين يتجرأون في الردّ عليه، وربما التطاول، ومن الصعب أن نجد صوتا موضوعيا يفّند ما كتبه طه حسين، إلا أحد تلاميذه الذي يكتب ويردّ علي أستاذه في أدب جم في مقال عنوانه "نعم واقعيون".
لذلك فخروج أصوات إبداعية علي هذا الكورس الواقعي المدعوم بكافة المستندات الاشتراكية والثورية، لا بد أن تعاني من التجاهل والإهمال، وربما الاستبعاد، أو المشاكسة، وكان هذا المصير يمكن أن يسحق شاعرا مثل صلاح عبد الصبور، لولا الإصرار الذي يقترب من حالة المقاتل الذي جعله موجودا وقائما وفاعلا، بعد أن اعترفت قامات عربية أولا بشاعريته الكبيرة والاستثنائية في ذلك الوقت الصاخب والمثير في وقت واحد.
من هنا انبثقت موهبة الفتي الصغير وحيد النقاش، الشقيق الأصغر للناقد الموهوب واللامع جدا آنذاك رجاء النقاش، قبل أن يكون ناقدا كبيرا ومؤثرا علي المستوي العربي أجمع، ورغم أن "وحيد" كان يشغل ما يشبهعلي المستوي العائلي درجة الابن لشقيقه رجاء النقاش، العروبي والاشتراكي والواقعي كذلك، إلا أن وحيد سلك منحي ثقافيا آخر غير شقيقه، فبعد أن درس مراحله التعليمية الأولي في "منية سمنود"، وحصل علي الثانوية العامة من هناك، اتخذ قراره المفاجئ للالتحاق بكلية الآداب لدراسة اللغة الفرنسية، ولم يكن هذا قرارا علي ذلك الشاب المثقف والطموح والموغل في الحصول علي المعرفة، بل كان قرارا يتناسب مع أحلامه المشروعة في ظل ذلك الجو المشحون بالأصوات العالية لدرجة الصخب.
كما كتب معظم رفاقه، كانت بدايته في الحياة الثقافية، عندما أرسل مقالا إلي سهيل إدريس رئيس تحرير مجلة "الآداب" اللبنانية، وفيه تعليق نقدي علي الكتاب الذي ترجمه إدريس، وجعل عنوانه "عشر قصص عالمية"، وكان وحيد في ذلك الوقت عام 1954عمره سبعة عشر عاما فقط، ولكن تعليقه كان ناضجا، وفيه يتوقف وحيد أمام قصة عنوانها "لكي يموت وحيدا"، وهي تحكي عن مجموعة من الأفارقة لا يتجاوزون الخمسة، يستقلون طائرة تحمل أسلحة بشكل غير مشروع، وتتعطل الطائرة، وتسقط في صحراء إفريقيا الشمالية، ويقرر أعضاء تلك الجماعة أن يتركوا الطائرة كثيرا من الأسلحة تستطيع أن تقاوم بها كل هذه الأوضاع. لديك مثلا مركزك المطمئن في التدريس، وهو مركز يحسب عليه كثيرون ممن هم في مثل سنك. ولديك القدر الكافي من الثقافة الذي يؤهلك لفهم كثير من الحقائق. ولديك زاد من الاحترام تلقاه كلما وجد في مكان ما. وأخيرا فإنك تستطيع أن تعتمد علي "سامية" طالما هي "تعبدك" كما تقول.
وحاولت بكل جهدي أن أنطق الجملة الأخيرة بصوت محايد خال من كل انفعال، ويبدو أنني لم أفلح في ذلك كثيرا، فقد بادرني بقوله علي الفور:
- سامية ! هيه. انني سأنتحر علي صدرها. إنني أتصور نفسي الآن لا أدخل عش زوجيتنا المزعوم إلا بعد منتصف الليل، وجسمي من فرط السكر اتساند علي الجدران في الشوارع المظلمة. اسمع سأحكي لك ما حدث لي ذات مرة: عدت إلي منزلي بعد ما شربت وثرثرت كثيرا مع كل من قابلتهم من المعارف. وكنت قد دعوتها لأول مرة لزيارة في بيتي ذلك الصباح. وحاولت تقبيلها ولكنها رفضت، الملعونة ترفض. تصور. انها تتمنع. ها . ها . ها تتمنع بنت اللئيمة، أثارني هذا الموقف جدا حتي انني لم استطع أن افعل شيئا غير الهرب من نفسي، وبمجرد أن عبرت مدخل البيت - وكان ذلك في الثالثة صباحا علي التقريب - حتي رأيت الشقة الأولي في الدور الأرضي في هذا الوقت المتأخر، والباب مفتوح علي مصراعيه. وهذه الشقة يسكنها شاب في مقتبل عمره يعمل سائقا في احدي شركات الاتوبيس وله زوجة جميلة جدا في ريعان شبابها وطفلان صغيران. ولم أكن أسمع عنهما شيئا قبل اليوم علي الاطلاق منذ سكنت في الدور الثاني. كنت احيانا التقي به في مدخل البيت وأنا خارج إلي العمل في الصباح فأقوم برد التحية التي يوجهها إلي في اقتضاب بالغ، وعندما كنت اعود، كنت أري وجهها هي مطلا من فرجة الباب تنادي طفليها اللذين يلعبان في الشارع. وغالبا ما كانت صورة وجهها تظل عالقة بوجداني لمدة ساعة بعد ذلك حتي تطمسها مشاغلي التي كنت أستغرق فيها ابتداء من المساء وفي هذه المرة رأيتها - بكامل جسدها وليس بوجهها فقط - جالسة علي الأرض في صالة شقتها وقد جلس قبالتها زوجها علي كرسي من الخيزران ومد ساقيه أمامها في وعاء بينما انهمكت هي في تدليك قدميه كان وجهه شاحبا وسمعته يتأوه في صوت واهن بينما كانت هي أشد شحوبا منه. وتباطأت خطواتي من تلقاء نفسها لالتقاط تفاصيل الحديث وأنا أعبر المسافة الصغيرة من الباب حتي بداية السلم دون أن يبدو الفضول. ولكنها لمحتني، فجرت نحوي بسرعة، فحرصت علي أن أكون مبتعدا عنها بمسافة كافية لمنعها من معرفة حقيقة الحالة التي كنت عليها عن طريق الشم، وبادرتني بجرأة الذي لا حيلة له:
- أنا انتظرت حضرتك كتير، طلعت فوق وخبطت علي الباب لكن محدش رد عليّ. اعمل معروف تكتب لجوزي علشان يحولوه مستشفي الشركة.
واستردت أنفاسها قبل أن تستأنف حديثها القلق:
- أصله عيان قوي، وما قدرش يروح الشغل.
الذي استوقفني يا محمود ليس الحادث في ذاته، فكثيرا ما يتكرر أمثاله أمامي عن طريق المشاهدة أو السماع، ولكن المهم هو تلك الطريقة التي كانت تدلك بها امرأة شابة قدمي زوجها المريض في قلب الليل وليس من أحد معهما سوي الظلام في الخارج والسكون المطبق والانات الخافتة. ثم، يا محمود، تلك اللهفة التي بدت عليها عندما رأتني كأنما قد عثرت علي كنز ثمين، أو قطرة ماء بعد عناء سير طويل في صحراء محرقة، ذلك هو الذي بهرني حقا. وحاولت أن أرد عليها أن أشاركها بأي طريقة في ألمها، غير أني لم أعثر علي غير هذه الكلمات - إن شاء الله - مري علي الصبح خذي الجواب.
وعندما كانت تقول لي "كتر ألف خيرك" كنت أنا أصعد الدرج متساندا علي الحاجز الحجري ببطء شديد وكأنما قد صب علي وعاء كامل من الماء البارد فأصابتني رجفة شديدة وبدأت آثار السكر تزايلني بشكل فجائي. وخيل إلي أن هذا الرجل المريض ذا الوجه الأصفر، المتهالك علي كرسي قاس، انما يستنشق، في هذه اللحظات، انسام سعادة خفية. وعبرت في خاطري تفاصيل ما حدث لي مع سامية في الصباح، فكدت أبصق علي صورتها التي بدأت تبرز في رأسي بشكل وقح. وظللت مرتميا علي فراشي بملابسي كاملة طول الليل والدموع تنهمر من عيني دون أن أقوي علي حبسها. سامية!: آه! إني سأضمها ذات يوم، قريبا جدا، إلي صدري، كما عانقت كليوبطرة الافعي بغية الانتحار، سأنتحر علي صدرها يا صديقي. ولا مفر. إنها تريد أن تتزوج المنصب فيّ، تريد أن تشركني في تمثيلية سخيفة تبرئ بها نفسها أمام المجتمع. ولكن.. لا مفر لي منها....".
وانهمرت الدموع من عينيه مما اضطررنا إلي القيام خشية أن ينتبه إلينا زبائن المقاهي وكلهم تقريبا يعرفوننا منذ زمن طويل. وإذ لم أجد ما أرد به عليه، لم يكن لي بد من تركه لأعود إلي المنزل كي أحاول النوم لأستيقظ في الصباح علي عدة مشابك للغسيل رتبتها سناء بأناقة علي الحبال المعلقة في شرفتها لتحدد لي موعدا ألقاها فيه، كما انحدر، للحظات، إلي الخدر الذي تدفع بي إليه.
منذ عدت من القاهرة أسلمت نفسي كلية للمصادفة. قد يكون هذا جميلا، ولكن في هذه الظروف القاسية التي كنت مارا بها، لم يكن من الأوفق أن أترك نفسي علي سجيتها هكذا، وأسلم زمامي إلي الحوادث تشيلني وتحطني كما شاءت. قد يكون السبب أني كنت مشتاقا جدا إلي كل ما في القاهرة، كنت اريد أن امتعها ذرة ذرة بوجداني المتعطش لاطمئن نفسي إلي انني لم افقدها إلي الابد كما كان يخيل إلي في ليالي غربتي القاسية، فأصاب بالذعر، وأعكف علي الشراب والبكاء. وقد تكشفت لي خطورة هذا الوضع. عندما انسقت وراء ابتسامة سقطت علي من شرفة سناء ذات صباح فلم أستطع أن اصمد أمامها لفرط اشتياقي إلي صحبة امرأة، أية امرأة، لقد رسمت لي موعدا بمشابك الغسيل. وكان ما يشغلني في هذا الوقت هو كيف سأستطيع أن أعاود الحياة في القاهرة من جديد، وكنت أدرس جميع الوسائل العملية التي يمكن أن توصلني إلي ذلك. وعلي خطورة هذا الموضوع بالنسبة لحياتي كلها: في الحاضر، وفي المستقبل، وكذلك في الماضي أيضا، إلا أنني نسيته تماما عندما انفرجت شفتان مكتنزتان ورسم انفراجهما علي البعد ابتسامة دعوة، وتألقت عينان سوداوان جميلتان وقالتا لي كثيرا من الكلام. ولم أفكر يومها في شيء آخر غير لقائها. وظللت قبل موعدها بساعات أدبر في رأسي كل ما سأفعله معها خلال جلوسي إليها وكل ما سأقوله لها بالتفصيل. وعندما كنا ننزل درجات السلم المؤدي إلي حديقة الكازينو المطل علي النيل، عثرت قدمها وكنت متأخرا عنها بدرجة فإذا بها تسقط علي صدري، ورأسها، بالشعر الغزير المعطر الذي يكسوه، مدسوس تحت أنفي مباشرة. ولففت ذراعي حول خصرها ودفعتها إلي الأمام بكل قوتي حتي لا تسقط وأسقط أنا معها. فإذا بها تعمدت هذه العثرة كي أفعل انا هذا الذي فعلته. وتلاقت عينانا ونحن نعاود النزول فتأكدت ساعتها تأكدا تاما من صدق هذا الخاطر الذي مر بي.
وعندما كانت جالسة قبالتي علي المائدة المغطاة بمفرش طويل ينزل مسترسلا حتي يكاد يلامس الأرض، أحسست أنها تقترب بصدرها من حافة المائدة أكثر فأكثر حتي التصقت تماما بها وثبتت كوعيها عليها بينما أسلمت رأسها إلي كفيها وهي تنظر إليّ. وبعد قليل شعرت بساقها من تحت المائدة، تلتف بساقي وتضغط عليها بشدة. لم يكن في نظراتها أي خجل. واستحوذ علي ارتباك عنيف حتي شعرت بقطرات من العرق تتجمع علي جبيني في بطء وأخرجت منديلا أجفف به وجهي بينما بدأت هي الكلام بقولها:
- أتدري ما الذي أريده أنا من هذه الحياة؟ إنني لا أبتغي سوي الرجل.. الرجل ولا غير.. لقد طلقني زوجي منذ سنة لأنه كان يغار عليّ، أبله! وهأنذا اليوم قد مضت علي سنة طويلة وأنا محبوسة في المنزل مع أمي وأخي المتزوج لا أكف طول النهار عن الشجار مع زوجته. وهم ثلاثتهم يحصون علي كل حركة أقوم بها كما لو كنت موشكة علي ارتكاب جريمة في كل لحظة. اسمع. أنا لا أريد زوجا، ولا حبيبا، ولا أي شيء آخر من هذا النوع. أريد فقط رجلا.. عشيقا!
لها حولوا نظراتهم إلينا من أجلها.. بينما كنت أنا منهمكاً بكليتي في تجفيف عرقي أحرك يدي القابضة علي المنديل بشكل آلي ابتداء من جبهتي حتي أدني ذقني، ومستسلماً للخدر اللذيذ الذي يحدثه احتكاك ساقها بساقي من تحت المائدة.
واستأنفت قولها:
- هل ستظل مع أهلك دائماً؟
واستجمعت طاقتي لأجيب عليها:
- لا.. أنني انتظر حتي أحصل علي عمل ثم أنفصل عنهم لأسكن وحدي، فأنا بحاجة إلي الوحدة لكي أواصل إتمام مشاريعي التي أعددتها للمستقبل.
- وأين ستسكن؟
- لست أدري حتي الآن.
- أرجو أن تحرص علي أن يتوفر في سكنك الجديد هذا شرطان: أن يكون بعيداً في وسط المدينة، وأن يكون كذلك في حي صاخب.
ولم أستطع أن أفهم مغزي هذا الطلب إلا بعد قليل، فقد سألتها:
- ولِمَ هذه الشروط؟
فأطلقت نفس الضحكة العالية وهي تقول:
- ألم تفهم وحدك.. إنك ساذج!
فارتبكت مرة أخري بصورة قوية، ولكني تذرعت بالهدوء وقلت لها:
- لم أفهم.. إنني أريد حياً هادئاً يصلح للعمل.. فلماذا هذه الشروط؟
- لكي أستطيع زيارتك دون أن يراني أحد!
وعندئذ أدركت ضرورة فراري من هذا الموقف بأسرع ما يمكن.. لم أكن أبتغي الجلوس إلي أنثي.. محض أنثي لا تبتغي من حياتها شيئاً سوي الرجل.. كنت أريد فتاة رقيقة سحرتني في الصباح ببسمتها وتألق عينيها لأجلس معها قليلاً فأحظي بشيء من الراحة وهدوء البال وربما.... ربما استطعت بعد تكرار لقائي معها أن آنس إليها أكثر فأحظي في النهاية بإنسانة تحبني وأحبها.. ما كان أشد خيبتي! وما شعرت بعدها إلا وأنا أدفعها أمامي إلي الخارج بقوة ونظرات الناس تلاحقنا، وسمعتها تقول، وأنا أودعها علي محطة الأتوبيس:
- ماذا جري لك؟
- لا شيء.. مجرد تعب بسيط يحدث لي أحياناً.
- مسكين!
قالتها بسخرية حتي قررت أن أحسم الأمر بأسرع ما أستطيع، فقلت لها بعصبية والمنديل مازال عالقاً بيدي:
- مع السلامة.
- ومتي سأراك ثانية؟
- قريباً.. قريباً..
قلت ذلك وأنا أسارع بالابتعاد كأنما أجري، أفر من شيء مفزع، وعدت إلي البيت، وكان أول شيء فعلته هو أن أغلقت شباك حجرة الجلوس، وأنزلت عليه ستارة لم تكن تنزل عليه أبداً مع أنها موجودة منذ زمن طويل، وجلست خلفه علي كرسي مريح أجفف عرقي ودموعي حتي الصباح.

غير أن الصباح كان يحمل لي مفاجأة جديدة، بينما كنت قد عقدت العزم نهائياً علي ألا تكون دموع المساء قد جفت إلا ويكون القلق الذي استحوذ علي نفسي قد تبخر نهائياً ورجعت إلي حالة من الصفاء تؤهلني لبداية مرحلة جديدة من حياتي.. ولكن الدموع آثرت أن تتخذ من هذه المصادفة الجديدة معيناً لا ينضب، وظللت أبكي بعد ذلك بلا انقطاع لمدة ثلاثة أيام.. ثلاثة أيام طوال.
كنت مستغرقاً في دفء الفراش استغراقاً كلياً وقد أخذني ذلك الخدر اللذيذ الذي يسيطر عليّ في تلك اللحظات علي الدوام كلما تصادف ونمت متأخراً، وسمعت طرقات علي باب الحجرة ولم يمهلني الطارق حتي أرد عليه، إذ سمعت صرير الباب وهو ينفتح برفق وصوت أختي الكبري يصافح أذني وهي علي مسافة قريبة جداً من رأسي:
- محمود! محمود!
وتقلبت في الفراش علي جانبي الآخر مولياً ظهري إليها دون أن أرد، لأنني كنت متعباً للغاية وأريد أن أستأنف النوم دون إزعاج.. غير أنها كانت فيما تبدو متلهفة علي إيقاظي بأي ثمن.
- محمود.. افتح يا محمود.. صفاء هنا.
كان صوتها خافتاً كالهمس عندما قالت لي هذه الجملة الأخيرة وهي تهزني من كتفي برفق، ولكنه كان واضحاً غاية الوضوح، ولا مفر من قبول الحقيقة دون أي محاولة للتهرب.. لقد سمعت بالذات الجملة الأخيرة بكل حرف من حروفها: "صفاء هنا".. وكأنما ذابت الحروف وتحولت إلي سائل ناري أخذ يجري في عروقي مع الدم.. وفتحت عيني علي أقصي ما تكون سمعتهما وقذفت الغطاء بعيداً بركلة من قدمي، واستويت جالساً علي السرير وجذبت أختي من يدها فأجلستها إلي جواري، بعد أن كانت هي من تلقاء نفسها قد أدركت ما أنا فيه.
وأطلقت ضحكة خُيِّل إليَّ أن جميع رواد الكازينو قد سمعوها ودهشوا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.