1- ليتهم تركوا رأسي .. لابد أن التفكير الطويل بالخوف أمر محزن , وهو ما حدث لي عندما كنت أقترح لنفسي أشياء عن موتي المأساوي, وافكر بأن هذا لابد أن يحصل يوماً ما . من الطبيعي جداً أن يشعرني هذا بالخوف, ويسبب لي الألم . داهمني هذا الشعور حتي علي الوسادة, فكنت أحلم مرّات ومرّات بصور تتكرر, عن رأسي المفصول عن جسدي. هذه الذكريات مؤلمة. حين عدت, هذه المرة الي البصرة, جئت لأقص حكاية , جئتها ولم أتعرف علي الأماكن الآهلة التي مررت بها. كان غيابي طويلاً , والمدينة لبست أثواباً متغيرة , كما يبدو. في الحقيقة, هذه تجربتي أنا, التي أحاول كتابتها, وهي تجربتي الوحيدة . ولا أريد أن أحكي كيف أمسكوا بنا نحن الثلاثة, رجلين وأمرأة , ولا بماذا أوثقوا يدي خلف ظهري , أو كيف أجلسوني علي ركبتيّ , ولا أريد أن أصف رعبي حين أروني السكين, وأغمضت عيني, ومع ذلك بقيت أبصرهم , وأري ما يفعلونه. ولن أصف كيف أمسك أحدهم بشعر رأسي وكشف عن عنقي, ليضع السكين عليها. لا أريد أن أتحدث عن دموعي, أو ذكرياتي , أو حبي لأهلي وأبنائي وزوجتي , ولا عن حسرتي علي الأشياء الجميلة التي سافتقدها, أو الأحلام التي لم أحققها.. لم يعد هذا مهماً الآن .. كما لا أريد أن أصف كيف آلمني نصل السكين وهو يقطع لحم عنقي, مع أن الألم لم يلبث طويلاً, أو كيف شعرت بالخدر, ثم بالراحة حالما تدفق دمي من الودجين المقطوعين, وداهمني النعاس, أو كأن النعاس قد تجمع داخل رأسي واحتل عينيّ, ثم كيف ذهب الألم. ولاأريد أن أصف كيف غرقت في طوفان من الراحة , وطفقت أري الجميع , من خلال ضباب مثل الدخان, أو من خلال رهج الضوء المشتت في دقائق الضباب , وبدأت أتعرف الآخرين . لم يعد الملثمون مهمين بعد ذاك . كنت أفكر بالشخص الذي اتكأ جسده الدافئ علي كتفي, ثم بدأ يبرد بعد لحظات, وكان جسمي يبرد أيضاً. لكن جسده كان يضغط علي جسمي وهو ينحني, ولم أشعر بالضيق من ذلك الجسد المتهاوي بلا رأس علي كتفي. ولا ارغب في الحديث عمّاذا تمنيت , حين تمنيت شيئاً واحداً, هو؛ لو انهم تركوا رأسي في مكانه, لرأيت عندها ذلك الذي كان يتكئ علي كتفي, لو أنهم لم يدحرجوا رأسي , من دون أن أراه, مع رؤوس آخرين .. لكن الحسرة بقيت في صدري , من دون أن أستطيع التخلص منها, بقيت محبوسة هناك, وكرهت أن تبقي حسرة في صدري, ولا استطيع أن أزفرها, لأن عنقي مقطوعة.. 2- أردتُ أن أدله علي رأسي.. ناديته وأنا فرح :- - " أيها الصديق.. يالسعادتي, أيها الصديق." توقف, والتفت, ثم نظر باتجاهي , نظر هكذا دونما اهتمام, كانما لم يتعرفني, أو كأنما اكتشف الفراغ, ثم أدار إلي ظهره , وابتعد.. ناديته مرة أخري :- ".. صبيح , يا صبيح.! " لكنه لم يلتفت هذه المرة , وضاع في زحام العشار. تلك هي المشكلة , أو هكذا ابتدأ ألمي . أجد الصديق , وأناديه. يلتفت , وينظر دون أن يكلمني , يدير ظهره إلي, ويبتعد . عشرات الأصدقاء , مئات.. لكن " صبيح جخيور " ومنذ أن جُن , ما رآني إلا وبكي. يقص علي أياماً سعيدة قضاها في المصح العقلي, ويأسف لشيء لم أره.. من ذلك كان ألمي.. وحين تخلو المدينة من المشاة, أبقي وحيداً تملأني رطوبة الليل بالوحشة, أو تمزقني رياح الوحدة , حين تهب علي رأسي المصنوع من ورق النشاف. أريد أن أعرف ما حل بأهلي, زوجتي وابنتي الجميلة, بعينيها المذهولتين, حين تتلفت الي الجانبين كالعصفور, ملاك الأزقة تلك, أمي واخواني أيضاً .ألم أقل لكم ان المدينة تغيرت ،لابد أنني لم أقل. لقد ضعت فيها, كأنني أسير علي رأسي, بحثت عمّن يدلّني علي أعزائي دون أن أضيع.. لكن " صبيح جخيور " جاء الي حيث ناديته يوم أمس, أمام " فندق اليرموك السياحي " , وظل يتلفت, ينظر الي جميع الجهات, ويصيخ السمع, كان يبحث عن شبح, رآني وأجهش بالبكاء, قال لي:- - " لماذا مت؟ لماذا مت, ياصديقي ؟ " ( هل أنا ميت؟!) , داهمني هذا السؤال الفاجع , ودون أن أبحث عن ذريعة, سكت, وسألته عن أهلي وداري , ولما يزل الدمع يصب فوق خديه, قال : - " امرأتك تزوجت, وابنتك لم تكبر, أخذتها العصافير والحليب علي شفتيها الصغيرتين. " شهقت, وشهق هو من الألم, وطوح بيديه يلطم الهواء موجوعاً, فكسر الواجهة الزجاجية لمحلات الموبايل, وأدمي أنف أحد المارة. كان يري نفسه وحيداً في فضاء خال , أو في الفراغ. أشبعوه ضرباً, وسال دمه. وأخذه الشرطة, وخفت من اللحاق به , ثم أخذ يبحث عني بعينيه المذهولتين, وينصت لعلي أناديه. وصفا وجهه الملطخ بالدماء , مشرقاً بابتسامة تشبه ابتسامة ملاك الأزقة ابنتي. لكنهم لم يتركوه لي، لكي أدله أين ألقي الملثمون رأسي, الذي لم يجده موظفو البلدية حين دفنوا جسدي وحده.. 3 في كل مرة هذا هو اليوم السابع , وكما في كل مرة , يسحب الممرض المناوب الجرارَ الذي ألقوا جسدي فيه, فيلفحني بعض الدفء. إذن هناك زائر. يمسك الزائر بطرفي أصبعيه, السبابة والإبهام, معصمي, ويرفع ذراعي , يبحث عن علامة, علّه يجدها, تحت إبطي, علي الساعد, أو في باطن لحم زندي. كذلك فعل هذا الزائر, ثم أنزل ذراعي برفق, يخشي أن يوقظ جثة بلا رأس, وقال آسفاً, كما لوكنت أنا من يأسف : - - " لا, ليس هو.. " في كل مرة من مئات المرات, لست أنا!! وفي كل مرة , تمنيت , دونما جدوي, أن يحتضنني الزائر فجأة, ويصرخ باكياً بأعلي صوته, أخي أو ولدي.. زوجي أو أبتي .. لأعرف عندها أنني عدت إلي أهلي أخيراً.. حين دفع الممرض المناوب الجرار, ليعيده إلي مكانه, أردت أن أتوسله :- " رحماك, لا تغلق الجرار مرة أخري ". لكن رأسي ليس معي, فمن أين لي بفم أتوسل به, لكي يسمعني الممرض المناوب! المئات من حولي يبكون بلا عيون, أو يتوسلون بلا أفواه, من القلب فقط, القلب المتجمد الصلب. كان هذا هو اليوم الأخير, وربما كان هذا الزائر هو الزائر الأخيرأيضاً, ففي صباح غدٍ, و قبل أن تشرق الشمس, ستؤخذ أجسادنا بعيداً, إلي الأبد . إينوما إيليش : حينما في العلي.