تتراوح السير الذاتية بين الفن والتاريخ طبقا لدرجة الإبداع فيها, وهي تتمثل في تقديري في ثلاثة عناصر جوهرية, التحليل الفني المحاكي للواقع والملتزم به, والتشويق السردي الذي يحرص علي حكاية تحولات الحياة بشغف والتعبير الجمالي الذي يمتعك بحلاوة اللغة وحيويتها المدهشة, دون أن تخرج في كل الحالات من الميثاق الضمني بين المؤلف والقارئ, وهو دوران الحديث حول حياة الكاتب في أحداثها الخارجية الصادقة, وتجلياتها الباطنية الكامنة, ويبدو أن لذة السرد التي ولع بها الدكتور جلال أمين وتجلت في كتاباته الشيقة عما جري للمصريين, ومزج فيها بمهارة بين الفكر الاقتصادي والتحولات الاجتماعية والإنسانية التي أغرته بأن يعيد مرة أخري علي غير المألوف كتابة سيرته الذاتية, في رواية أخري بعد أن نشر منذ عدة أعوام ماذا علمتني الحياة وهو عنوان مدرسي كان قد فضله كما يقول علي عنوان آخر يتعلق بخيبات الأمل التي يشعر بها الإنسان في خريف عمره. بيد أنه هذه المرة يختار عنوانا أشد جاذبية وأدبية وهو رحيق العمر ليمعن في استصفاء الدلالات المرهفة لما تجدد بها ذاكرته, والمدهش أنها تتدفق بسيل من الخواطر المنسابة والتحليلات العفوية عما فاته تسجيله في المرة الأولي. متعة الاعتراف تتوقف أهمية السير الذاتية علي شجاعتها في البوح وكشف الأسرار وتحويل الاعترافات التي قد يعتبرها البعض مثيرة للخجل الي برهان نبيل علي الصدق الإنساني, واعتبار حالات الضعف والحمق وسيلة لنمو قوة الروح ونضج الشخصية التي يكتسبها الإنسان من شجاعته الأدبية, مما يتطلب ثقة عالية في النفس, وفهما عميقا لحراك منظومة القيم في المجتمع, وهذا ما يكسب رحيق جلال أمين حلاوته ومرارته اللاذعة أيضا. فهو يروي في الفصل الأول مثل بدهاء محسوب قصة جديه لأمه وأبيه, وهما جراح عظيم يوثق تاريخه, وطباخ متواضع يسجل أصله, بما يقيم توازنا معتدلا بين الطرفين. لكن ما يكسب هذا التوثيق دلالته علي شخصية الراوي ما يحكيه من أنه عقب وفاة والده قد اتصل بالدكتور أحمد زكي لكي يعدل مقاله ويمسح من اسمه لقب الطباخ لأنه قد يؤثر علي تقدير المجتمع للأسرة, وكيف كان رد أحمد زكي عليه أذكر أن الرجل بدا أولا وكأنه غير مصدق لما يسمع, ثم لما تأكد وفهمه وقال لي بحزن: إنه كان قد يظن أن أحمد أمين قد ربي أولاده علي نحو أفضل من هذا, ثم أضاف بحزن أيضا آن لنا أن نفعل ما نشاء وأن نحذف من الكلام ما نريد حذفه, وبالفعل ظهر كتاب أحمد أمين بقلمه وقلم أصدقائه من دون كلمة الطباخ حتي لحظة الاعتراف في هذه السيرة. وتزيد جرعة الأدب في هذا الرحيق عما لمسناه في السيرة السابقة بإعمال الذاكرة في استحضار المشاهد وربطها بفلذات ملائمة من المخزن التخييلي الجميل, فهو يتذكر مثلا كيف كانت أمه شديدة الحرص علي حياة أولاده, ويقوم تفسيره المادي لذلك من أنهم يمثلون الرابطة التي تشد عجلة الاسرة إلي فارسها. وعلي ما يترتب علي ذلك من خشيتها دائما أن يدخل الأولاد بضعة أمتار من شاطئ البحر وترديدها عبارة بره زي جوه ثم يعقب علي ذلك قائلا: قد التصقت هذه الجملة بذاكرتي إذ وجدت فيها عندما كبرت كثيرا من الحكمة, وهي نفس الحكمة التي عبر عنها الشاعر الهندي طاغور في مقطوعته التي يتحدث فيها عن كثرة سفره وترحاله وصعوده إلي أعلي الجبال ثم نزوله إلي أعمق الوديان دون أن يلتفت إلي ورقة صغيرة من العشب تعلوها قطرة من الندي بجوار باب بيته. ولكن طاغور عندما كتب هذه المقطوعة لطفل هندي صغير ناولها لأم الطفل قال له إنه لن يفهمها الآن, لكنه سيفهمها قطعا عندما يكبر, وهذا ما حدث معي بالضبط, لم أفهم عبارة أمي جوه ذي بره في صغري, عندما كانت رغبتي قوية في إثبات الذات وتجربة المجهول وبوسعنا أن نقول إن هذا المعني الذي يسبغه الكاتب علي عبارة والدته البسيطة المباشرة ليس وليد دلالتها, ولكنه وليد فلسفة المفكر الناضج القادر علي ربط الكلمات البسيطة بأرهف اللحظات الشعرية في الوعي الإنساني بخيال نشط وحكمة واعية. ولا تنفذ المشاهد التي يستشعر فيها القارئ لذة الاعتراف وذكاء التعليل, فكل من يري جلال أمين يلاحظ بهدلته في ملبسه وافتقاده لعادة الأناقة مع مقدرته عليها, وهو يرجع ذلك إلي تقدير عائلي ورثه من ضيق أبيه دائما بتجديد الملابس وتذمره من إهدار الوقت والمال في شراء مالا ضرورة له منها, ثم لا يفوته أن يتردد في هذا الربط قائلا: قد يكون هذا هو السبب, وقد يكون هناك سبب آخر لا أعرفه لهذا الإهمال الذي نشأت عليه في اختيار ما ألبس من ثياب ونفوري من شراء ملابس جديدة, فإذا فعلت ذلك استجابة لإلحاح زوجتي مثلا اكتشفت أن الشهور تمر وأنا أرتدي نفس الجاكتة أو البدلة القديمة,لأنها أقرب الملابس إلي يدي والبدلة الجديدة لا تمس, فإذا خطر لي أن ألبس شيئا مختلفا, ولو لمجرد ألا يصاب تلاميذي الملل, أو لكي لا يظنوا إني لا أملك إلا هذه البدلة الوحيدة ونظرت إلي نفسي في المرآة وأنا أرتدي هذه البدلة الجديدة أجد أني لا أكاد أتعرف علي نفسي فيها لكنه يتعرف علي نفسه بعمق في مثل هذا المشهد الممتع, ولا أحسب أن مصدر المتعة لدي القارئ أن يتشفي من الكاتب أو يتلذذ بكشف معايبه الصغيرة كفي المرء فخرا أن تعد معايبه أو لأنه يقع علي المطابقة الواضحة بين الأصل والصورة, وإنما لأن هذا الاعتراف مصدر للطرافة الذكية وروح الفكاهة في السخرية من الذات, وهي التي تجعلنا نتحمل حديث أي إنسان علي نفسه, ولا نطيق منه أن يقتصر علي ذكر فضائله, وتكمن المتعة أيضا فيما يمس المشاعر الإنسانية الدقيقة التي نختبرها في أنفسنا ونسعد عندما نجد من أمامنا يؤكدها لنا, وهذه هي حالة التماهي التي يتحدث عنها النقاد كثيرا, ويروي لنا جلال أمين مشهدا مؤثرا من هذا النوع عندما يتذكر الكلمة التي ألقاها في عرس ابنه الذي اقيم في أمريكا وتذكر فيها جملة سمعها من أبيه وهي أن الشخص الوحيد الذي لا يكره المرء أن يكون أفضل منه هو ابنه, وكيف أنه فوجئ بعد انتهاء الكلمة بالخادمة الأمريكية تأتي إليه لتهمس في أذنه بأنها عندما سمعت هذه الكلمة دمعت عيناها, وأن شعورها بالضبط نحو ابنها هو ما قلته عن ابني, هنا يتكشف لنا السر في هذا الوتر الإنساني الحساس الذي تعزف عليه الكتابة الأدبية عندما تلتقط المشترك الإنساني من المشاعر الصادقة المؤثرة. المزيد من مقالات د. صلاح فضل