تشهد بلادنا هذه الأيام وبعد ثورة يناير المجيدة, حراكا سياسيا غير مسبوق فقد ذهب الحزب الوطني الحاكم المستبد إلي غير رجعة وبحكم قضائي وزالت قبضة الأمن عن السياسيين وأنشطتهم السياسية, وانفتح الباب لمختلف الممارسات السياسية, مسيرات واحتجاجات واعتصامات ومنشورات. نزل إلي ميدان السياسة قوي وتنظيمات وشخصيات لم تكن تتصور أن تقترف السياسة ذات يوم, وقد نزلت تلك القوي والشخصيات ميدان السياسة من أوسع أبوابه, باب رئاسة الجمهورية فشهدنا برامج وعشرات الندوات واللقاءات والمناظرات وهذا كله أفهمه بل وأرحب به, ولكن الذي أرجو أن ألفت النظر إليه هو محتوي الخطاب السياسي لذلك النشاط برمته فذلك الخطاب أراه يهتم بالعابر والشخصي والسطحي من القضايا, ويغفل الجوهري والمصيري والأساسي, فقد تابعت كما تابع الناس بشغف تلك المناظرة بين اثنين من مرشحي الرئاسة الكبار يتهم أحدهم الآخر بأنه من الفلول وبقايا النظام القديم, فيرد هذا علي الأول: بأنه انتهازي ومتطرف ومصادر تمويل حملته ليست فوق مستوي الشبهات, وتستمر المساجلات السياسية بين المرشحين وكأنها تقاذف بالأوحال, فهذا مرشح مطعون في ذمته المالية وذاك من الذين قبضوا من صدام حسين, وذلك من عملاء مباحث أمن الدولة, وذلك من دعاة الدولة الدينية والذين ركبوا موجة الثورة وتآمروا عليها, وتستمر المساجلات دون مناقشة حقيقية ونقد وتفنيد للبرامج والرؤي السياسية التي يتبناها كل مرشح, ولعل غياب النقد السياسي والواقعي لتلك الرؤي هو نفسه ما جعل من برامج المرشحين مجرد شعارات جوفاء تسعي لدغدغة مشاعر الناس وكسب ودهم والحصول علي أصواتهم دون مناقشة حقيقية للبدائل والآليات وحسابات التكلفة, فهذا سيعيد الأمن في أربع وعشرين ساعة, وذاك سيحقق العدل الاجتماعي في أسبوع, وذاك سيقضي علي العشوائيات في شهر. لم يعد أحد يتناقش حول ما نحتاجه من مبادئ دستورية تصون المساواة بين المواطنين وتمنع تغول أو افتئات أي أكثرية سياسية كانت أو دينية علي حقوق المواطنة للأقليات والمواطنين جميعا, ولا المبادئ الدستورية التي نحتاجها لرسم الخطوط بدقة بين المؤسسة العسكرية وغيرها من مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية حتي تتفرغ بالكامل لأداء مهمتها في صيانة الوطن وحماية حدوده, ولم يعد أحد يهتم بنوع العقد الاجتماعي الذي سيتبناه الدستور القادم ليضمن للناس جميعا حقوقهم في الثروة الوطنية في نفس الوقت الذي يصون الملكية الخاصة ويشجع رأس المال علي الاستثمار والقيام بدوره الاجتماعي والوطني, ويميز بدقة بين الثروة الخاصة والمال العام وخاصة للموظفين العموميين عبر أجهزة المحاسبات والرقابة الفعالة والمستقلة, كما تغيب عن مناقشاتنا السياسية تناول الخطوط الفاصلة التي تضمن للسلطات الثلاث في الدولة: تشريعية وقضائية وتنفيذية أداء دورها كاملا ومنضبطا دون أن تتغول إحداهما علي الأخري, أو تتحول إحداها إلي مجرد خادم مطيع للسلطة التنفيذية خاصة حين تفسد تلك السلطة وتستبد, وخلال تحديد فترة الرئاسة بمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لفترة ثانية, لم يعد أحد يهتم بمنصب الرئيس ووظائفة وكيف يمنع الدستور تنصيب مستبد جديد بصلاحيات مطلقة, بل وكيف تكون للمواد الدستورية التي تحاكم الرئيس أثرها الفعال في كبح نوازع الشر لديه, أوبطانة الفساد التي يمكن أن تلتف عليه فوق هذا كله وفي ظل سعي قوي دينية عديدة, وفي مجلس الشعب للأسف لإلغاء قوانين تحديد سن الزواج ومنع الختان والرؤية والخلع وغيره من قوانين تعبر عن رؤية عصرية للمجتمع وتتسق مع العصر وثقافته, بأحكام وفتاوي تنطلق من تصورات ضيقة عفي عليها الزمان, بل وتسعي تلك القوي إلي فرض تصوراتها علي الناس والثقافة والإبداع, في ظل هذا كله لم يعد أحد يهتم بدور الفقه وأحكام الشريعة, في المجتمع وكيف يمكن أن تصون مبادئ الدستور والقانون حريات الناس ومعتقداتهم المختلفه وحقوقهم في حرية التفكير والتعبير والنقد والإبداع في مواجهة كل أشكال الاستبداد سياسيا كان أو دينيا.