منذ رفع العقوبات الدولية عن إيران فى 16 يناير الماضى تطبيقا للإتفاق الموقع فى يوليو 2015 مع القوى الكبرى بشأن برنامجها النووى، راجت توقعات كثيرة حول تنامى دور طهران فى الشرق الأوسط بفضل الإفراج عن أموالها المجمدة فى الخارج وهو ما سيمنحها حرية حركة أكبر فى المنطقة، فضلا عن الإعتراف الضمنى بدورها الإقليمى من جانب القوى الكبرى. ولاشك أن نتائج هذا الإتفاق الدولى سوف تنعكس أثارها على المنطقة، خاصة دول الخليج المجاورة لإيران. وليست مصر ببعيدة عن تلك الأثار، إذ أنه برغم البعد الجغرافى النسبى بين البلدين، فإن مصر ترتبط إرتباطا وثيقا بدول الخليج العربى من النواحى الإقتصادية والسياسية والعسكرية الإستراتيجية. كما أن وضع مصر كقوة إقليمية أساسية فى العالم العربى والشرق الأوسط لا يسمح لها أن تكون بمعزل عن التطورات الهامة فى محيطها الإقليمى المباشر، والذى تلعب فيه دولا مثل إيران وتركيا أدوارا هامة، تتطلب من مصر وضع إستراتيجيات ملائمة للدفاع عن مصالحها ومصالح الدول التى ترتبط بها كدول الخليج. ومن المعروف أن العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين مصر وإيران منذ 36 عاما وتحديدا فى عام 1980 فى أعقاب قيام الثورة الإيرانية وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى 1979 وإستقبال مصر فى العام التالى لشاه إيران السابق محمد رضا بهلوى الذى كانت سلطات الثورة الإسلامية فى إيران تطالب بتسليمه لمحاكمته. وفى أعقاب إغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981 قامت الحكومة الإيرانية بتسمية أحد شوارع طهران بإسم المتهم الرئيسى بإغتيال السادات وهو خالد الإسلامبولى، وهو ما زاد من توتر وتعقد العلاقات بين البلدين. ومنذ ذلك التاريخ، تراكمت الخلافات الثنائية والإقليمية التى ألقت بظلالها على إمكانيات تحسن العلاقات، ومن أهمها دعم مصر للعراق فى حربه ضد إيران التى إستمرت ثمانى سنوات من 1980 إلى 1988 وتصدى مصر لمحاولات طهران تصدير ثورتها الإسلامية لدول المنطقة خاصة فى الخليج العربى. وبمرور السنين، أضحى من الصعب عودة العلاقات الدبلوماسية، وإن كان كل بلد يحتفظ لدى الأخر بمكتب لرعاية المصالح يرأسه قائم بالأعمال. وترجع صعوبة تحسن العلاقات السياسية بين البلدين لتعارض المصالح بسبب تبنى طهران لسياسات تدخلية سافرة فى الشأن العربى. وترى مصر إن إنتهاج إيران لتلك السياسات يلحق الضرر بالأمن القومى المصرى المرتبط إرتباطا وثيقا بأمن وإستقرار الدول العربية. وقد إشتدت التدخلات الإيرانية فى العديد من الدول العربية بعد الثورات الشعبية التى إندلعت فى 2011 والتى تمخضت عن نزاعات مسلحة وعدم إستقرار سياسى وأمنى إستغلته طهران للتغلغل ومد نفوذها فى تلك الدول. وقد أضحت تلك السياسات مصدرا رئيسيا للخلافات بين دول الخليج وإيران وللتباعد بين مصر وإيران. فمعظم دول الخليج تتهم إيران بشكل متواتر بالتدخل فى شئونها الداخلية وبمحاولة زعزعة الإستقرار فى داخلها وبمد نفوذها داخل الدول المجاورة مستغلة الصراعات المسلحة والتوتر السياسى والأمنى فيها، كما هو الحال فى سوريا واليمن والعراق، بل ولبنان من خلال دعم حزب الله. وقد أشارت مؤخرا مصادر عراقية على علم بالتحركات الإيرانية أن "فيلق القدس" التابع للحرس الثورى الإيرانى وميليشيات "الحشد الشعبي" الشيعية فى العراق تدرب عناصر من المملكة العربية السعودية والبحرين فى الأراضي العراقية لإنشاء "فيلق البقيع" الذى يستهدف وفقا لبعض قادة الحرس الثوري والمتشددون الإيرانيون "تحرير الحرمين الشريفين". وتتخذ مصر موقفا داعما لدول الخليج ليس فقط لأسباب إقتصادية معلومة مثل المساعدات المالية ووجود نحو 4.5 مليون من العاملين المصريين فيها تمثل تحويلاتهم مصدرا رئيسيا لدخل البلاد من العملات الصعبة، ولكن كذلك لإرتباط الأمن القومى المصرى بأمن دول الخليج. ويعد ذلك من ثوابت السياسة المصرية فى العقود الأخيرة. فقد تدخلت مصر عسكريا فى السابق ضمن تحالف دولى لتحرير دولة الكويت بعد إحتلال العراق لها عام 1990. كما تشارك مصر بقوات بحرية وجوية فى التحالف الذى تقوده المملكة السعودية فى النزاع الدائر فى اليمن. ولا شك أن تلك المشاركة المصرية تهدف كذلك إلى تحقيق أهداف وطنية وهى تأمين حرية الملاحة فى باب المندب الذى يمثل المدخل الجنوبى لقناة السويس، وهى أحد أهم مصادر الدخل القومى. وقد إستبعد وزير الخارجية سامح شكرى فى حديث لجريدة عكاظ السعودية فى 31 مارس إمكانية فتح حوار جدى مع طهران فى الوقت الراهن، معزيا ذلك إلى عدم تهيؤ الظروف لتحقيق نتائج إيجابية. وقد أرجع ذلك إلى توجهات إيران التى تتطلب وفقا له إحداث تغيير فى المنهج والسياسة إزاء المنطقة والسعى إلى بناء علاقات على أسس التعاون والإحترام المتبادل والتكافؤ فى المصالح وإحترام إستقلال وسيادة الدول العربية وعدم التدخل بها والكف عن السعى لفرض النفوذ. والواقع أنه ليس هناك مؤشرات على قرب حدوث مثل تلك التحولات فى السياسة الإيرانية. والشواهد المادية على ذلك عديدة، فالمساعدات العسكرية الإيرانية متعددة الأشكال لبعض أطراف النزاعات العربية معلومة للجميع، سواء تمثل ذلك فى توريد السلاح أو التدريب أو التجنيد أو التخطيط المباشر للعمليات العسكرية. ومن المعروف أن من يقود تلك العمليات العسكرية، خاصة فى سورياوالعراق، هو الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس. وقد إعترف منذ عدة أيام الجنرال محمد علي فلكي، القيادي في الحرس الثوري الإيراني وأحد قادة العمليات العسكرية الإيرانية فى سوريا أن بلاده شكلت ما أسماه "جيش التحرير الشيعي"، وهو الإسم الذي عدّله لاحقا موقع الكترونى مقرب من الحرس الثوري إلى "جيش التحرير"، حتى يبعد عنه شبهة الطائفية، وهو الأمر المجافى تماما للحقيقة. فذلك الجيش يتكون بالفعل من الشيعة من مختلف الدول الإسلامية خاصة تلك التي يحتدم فيها القتال، بالإضافة للإيرانيين. فوفقا لمحمد فلكى، يتشكل هذا الجيش، الذى يرأسه كذلك قاسم سليماني، من عدة ميليشيات وهى قوات عسكرية شبه نظامية، وأهمها "لواء فاطميون" الأفغاني الشيعي، وميلشيا "زينبيون" الباكستانية و"حزب الله اللبناني" و"كتائب الخراساني" وحركة "النجباء" من العراق وميليشيا "الحوثيين" من اليمن. ويعمل هذا الجيش بالفعل في سورياوالعراق واليمن، إلى جانب قوات "حيدريون" العراقية وفيلق "حزب الله" المكون من حزب الله العراقي وحزب الله السورى. كما إعترف القائد العام لقوات الحرس الثوري الإيراني محمد على جعفري بوجود قرابة مائتى ألف مقاتل من خارج إيران مرتبطين بالحرس الثوري وقوات الباسيدج وهى ميليشيا من المتطوعين المدنيين. وكثير ممن أرسلتهم طهران للقتال إلى جانب النظام السوري هم من الشيعة الأفغان والباكستانيين والعراقيين الذين جندتهم مقابل حصولهم على الجنسية الإيرانية بمقتضى قانون أقره البرلمان الإيراني لهذا الغرض. ومن شأن تلك السياسة تأجيج النزاعات المذهبية فى مختلف الدول العربية التى تمزفها الصراعات المسلحة، وهو ما ينعكس سلبا على استقرارها السياسى ويهدد وحدتها الإقليمية. لمزيد من مقالات د. هشام مراد