لعل واحدة من أخطر المشكلات والمتجددة أيضا التى تواجهها مصر، هى مشكلة التعليم، فالعالم يتغير بسرعة لا يكاد يشعر بها كثير ممن يتحدثون عنه الآن، ولا يتصورون أن التعليم المدرسى الذى نشأ فى عصر الصناعة ليلبى متطلبات المجتمع حينئذ، يتغير ويتطور ليتلاءم مع متطلبات ثورة المعرفة وآثارها على المجتمعات، من تغيرات هائلة، أى أن ما واجهه العالم بعد الثورة الصناعية تطلب التعليم المدرسى النظامى لإعداد الأفراد للحياة فى مجتمع بمواصفات مختلفة عن عصر الزراعة قبله، وبالتالى يتطلب مجتمع عصر المعرفة الراهن تعليما مختلفا ملائما للزمان الذى نعيشه، وللمجتمع الذى نعيش فيه بكل متغيراته. وحين نواجه الآن باقتصاد المعرفة، ومتطلبات الزمان الرقمي، نجد من يقف فى إصرار ليطالب بربط التعليم باحتياجات سوق العمل، ولا يفكر لحظة فى المدلول الإنسانى والاقتصادى والاجتماعى والسياسى قبل ذلك لما يردده، وهو يتصور أنه الحل الأمثل، الأزمة حتى الآن تكمن فى أننا لم ولا نتفق على إجابة للسؤال: لماذا نتعلم؟ ما الذى نريده من التعليم؟ وما الذى نريد أن يكون عليه المتعلم؟ فالإجابة عن السؤال عن أهداف التعليم أو فلسفته يكمن فيها التصور للمواطن الذى يريده وللمجتمع الذى نرجو أن يجمعنا، وفى هذا تفصيلات كثيرة. إن الزمان الرقمى هذا أو زمان اقتصاد المعرفة والثورة العلمية والتكنولوجية، التى تميز العالم يختلف فى متطلباته من الإنسان ومن التعليم عما كان معروفا فيما بعد اكتشاف البخار وقدراته المحركة، وأيضا الطاقة المتولدة عن الفحم والبترول والكهرباء. أن التكنولوجيا الرقمية القائمة على الثورة العلمية المتفجرة، أدت إلى سهولة الانتقال وسرعته، وأن ثورة الاتصالات أصبحت قادرة على وصل الليل بالنهار، فنصف الكرة الجنوبى يعمل فى ساعات يستكملها بعد ذلك فى نصف الكرة الشمالي، وبالتالى ما عادت بورصات العالم الكبرى تتوقف، وما حدث فى ميدان التحرير فى مصر عام 2011 طاف العالم، والزلازل كظاهرة طبيعية، والتى تحدث فى أى مكان، نعرف أخبارها فى التو واللحظة، والهاتف المحمول يتغير كل عدة أشهر تقصر أكثر فأكثر، فالتجديد المتلاحق الناتج عن الاختراعات الكثيفة والمتراكمة، وتطبيقاتها السريعة جعلت أشياء كثيرة من حولنا تتغير، ومع كل هذا لا نزال نردد فى التعليم الكثير من الأفكار والآراء والحلول القديمة، التى ما عادت تتلاءم مع المتغيرات المذهلة والداهمة لمجتمعنا، ولجميع مجتمعات العالم. إن الفرق بيننا وبين غيرنا فى التعليم حاليا، ومنذ فترة من الزمان، هو عدم الجدية فى مواجهة مشكلاته مادام القادر يستطيع الآن أن يتجنب الثانوية العامة، ويحصل على شهادة دولية بديلة، والدولة تشجع على هذا وتسمح بنظم تعليمية مستوردة بحجة أنها تمنح شهادات دولية بلغات أجنبية، وتسمح للحاصلين على هذه الشهادات بالدخول إلى الجامعات العامة الممولة من الدولة، بل إنها تستدخل التدريس باللغات الأجنبية لتفرق بينهم وبين زملائهم المصريين، مع الاتجاه المتزايد إلى إنشاء جامعات خاصة أجنبية تمنح درجات أجنبية بدلا من الإصلاح لما لدينا، وتجعل بهذا أبناء المجتمع المصرى شيعا. إن الشعور بالهزيمة والعجز أمام الفكر التربوى الوافد، يجعلنا نستقدم الخبراء من المنظمات الدولية ليقدموا لنا أفكارا لا تتلازم مع واقعنا المجتمعي، أو الثقافة المصرية الضاربة بجذورها عبر قرون طويلة، بحجة أننا من الدول المتخلفة تعليميا، والتائهة فى صحراء فقر الفكر، وكأن مصر لا تستطيع أن تستفيد ممن لديها من المفكرين والباحثين بحجة أنهم صنعوا المشكلة ولا يمكنهم بالتالى حلها. أزمة الفكر وقصور الخيال التربوي، وموقف غير المتخصص من مشكلة ليست فى صميم تخصصه، وتجاهل أبناء الوطن ممن يمتلكون الوعى والعلم المتخصص بأبعاد المشكلة، وكيف يمكن التعامل معها فى إطار الزمان والمكان ومتطلبات الإنسان المصرى الذى لايزال يؤمن بأن التعليم سلاح، فالتعليم فى تصوره بالمكانة الاجتماعية والراتب والوظيفة المرموقة، وليس العمل الشاق والإنتاج، التعليم الرسمى لايزال فى نظر الكثيرين مرتبطا بالراتب الثابت والمعاش مهما قيل عن قلته، قليل من هم يتحدثون عن وجوب أن يكون التعليم مستمرا للجميع من أجل المواطنة، وتعليم المواطن كيف يكون قادرا على مجاوزة الواقع والمغامرة والتجديد والعمل التعاونى مع غيره، والإبداع فى النظر للأمور المتكررة، والبحث عن حلول غير مألوفة لتغيير الواقع وتحسينه. لقد فكرت المجتمعات الأخرى فى تعليم يتلاءم مع ثقافتها وواقعها ومتطلباتها واحتياجات أبنائها المتغيرة مع متطلبات العصر، وبالتالى لا يصلح لنا أن ننقل عن غيرنا ما نجح عندهم، فما نجح فى مجتمع له ثقافته التى تميزه، ليس بداهة يمكن أن ينجح فى مجتمع مختلف. حقا من الممكن الاستفادة من تجارب الآخرين فى التعليم، وليس نقلها، من الممكن أن نتعلم من الممارسات التعليمية المتميزة لدى غيرنا، لكن لا يمكن أن يكون التعليم المصرى منقولا عن نظم غيرنا التعليمية. لمزيد من مقالات د. نادية جمال الدين