يكتب كثيرا عن التعليم وترتفع الاصوات وتدور الحوارات وكأنها حوارات بين الطرشان، فالنقد الجارف للتعليم لا تقابله مقترحات حقيقية ايجابية لاتخاذ سياسات تعليمية يمكن ان تربط ما بين حاضر ومستقبل الوطن وتصوغهما معا لإعداد وتهيئة المواطن المصرى للعيش فى مجتمع ينعم بالديمقراطية والتى هى مطلب أساسى فى هذا الزمان. وتكاد تقتصر ردود الفعل دوما على الحديث عن الاهتمام بالتعليم الفني، وتغيير المناهج أو تطويرها والمعلم وتدريبه ورفع مستوى الأجور والدروس الخصوصية وامكانية تجريمها واللامركزية وغيرها من قضايا فنية لا ترتبط إلا بتعليم الفقراء أو من هم على حافة الفقر من أبناء الوطن خاصة إذا ارتبط بهذا الدعوة الجارفة لمراجعة محتوى التعليم فى الازهر الشريف. ومع كل هذه الأحاديث و الحوارات لانجد من يتوقف للحديث عن الفجوات الآخذة فى الاتساع بين المواطنين فى مصر من منظور التعليم فنحن أمام التعليم فى المدارس الدولية والتعليم بلغات غير اللغة العربية من أجل الحصول على شهادات أجنبية متعددة الأسماء والمصادر الأجنبية حيث تؤهل فى مصر الآن لمن يود الارتقاء فى الوظائف والمواقع المتميزة وأصبح الحصول على درجة علمية أجنبية أو العمل مسبقا فى مؤسسات أجنبية أحد الأسباب المؤهلة للعمل فى المواقع القومية المختلفة بما يوضح فى قوة نوع العلاقة بين التعليم والسلطة. التعليم فى مصر يحتاج إلى رؤيه شاملة متكاملة تهدف وتعمل من أجل تحقيق التماسك و الترابط بين كل المصريين، تعليم جيد لا يرى هدفه النهائى تنشئة أبناء المجتمع وإعدادهم لمهنة او حرفة ما عادت متوافرة، نحن فى حاجة لتعليم المواطن المصرى المنتمى لتراب هذا الوطن، فالتعليم للمواطنة هو الهدف الأساسى والرئيسى الذى ينبغى ان يسعى التعليم لتحقيقة للجميع فى زمان العولمة وزمان فوضى التشتت والتفتت والتفكيك وتعميق الخلافات ومحاولات القضاء على الدولة القومية مما يدفعنا الى القول؛ وعلى سبيل المثال، إن الحديث عن اللامركزية فى التعليم يعتبر من قبيل الخيانة ذلك أننا فى ظل الأوضاع السائدة لدينا ومن حولنا لا نملك إلا الدفاع عن التماسك الاجتماعى فى مواجهة التخريب العالمى وبالتالى أهمية مراجعة ما يقوله كثير من المتحدثين عن التعليم فى مصر الآن فى ضوء متغيرات العصر الكاسحة . فالتعليم، ومن وجهة النظر هنا، عمل سياسى أى أن التعليم فى هذا الزمان الملتبس هدفه الأساسى هو تثبيت الدولة وتحقيق استمرار وتماسك المجتمع والعمل من أجل تحقيق الاشتراك معا فى رؤية حول مستقبل الوطن بكل من فيه ... أما الحديث الدائر عن ربط التعليم بسوق العمل فأصحابه لايزالوا يعيشون فى بقايا فتات عصر الصناعة والذى فاتنا أيضا ولم ينتبهوا بما فيه الكفاية لمتغيرات مجتمع المعرفة ومتطلبات الاقتصاد المؤسس على المعرفة من التعليم. ومهما كانت الآراء فالمراجعة واجبة ولذا يمكن القول بأن زماننا هذا يتطلب العودة الى النظر للتعليم من منظور الديمقراطية والذى ظهر على يد عديد من الفلاسفة المشهورين مثل «جون ديوي». ولعل الآراء المختلفة التى تتناول بالحديث ما تقوم به اجهزة الاتصال الرقمية وما اطلق عليه الاعلام الحديث بكل انواعه وما جاء به من تحديات للقوى الاجتماعية المختلفة إنما هو احد اشكال الديمقراطية فى المجتمعات المعاصرة حيث المعلومات حق للجميع وكذلك المعرفة ... وبالتالى ولكى يمكن الاستفادة من استخدام هذه الأجهزة الرقمية المتنوعة فى مختلف المواقع المتزايدة فإن على الدولة أن تتحمل مسئوليتها تجاه مواطنيها باتاحة الفرص المتكافئة للحصول على تعليم يسمح بامتلاك كل الأدوات للوصول والحصول على المعرفة وأساسا تعليم يؤدى بجميع أبناء الوطن لقبول التنوع الحادث فى المجتمع بفعل التغيرات الجارفة المحلية والعالمية، تعليم يؤدى لتحقيق التماسك الاجتماعى وتكوين افراد يمتلكون من الولاء والانتماء ما يؤدى بالوطن الى تحقيق الاستدامة والنمو فى كل الجبهات ... ان الحاجة الحقيقية هنا لمشروع تعليمى يهدف الى العمل لتعليم المواطنة ويستجيب لمتطلبات الديمقراطية الحقيقية وان يكون مستجيبا لكل الاحتياجات التى يفرضها التنوع الثقافى ليتحول إلى تنوع ثقافى خلاق فعلا. فالهجرة المتزايدة من مصر وإليها أيضا تفرض علينا اعادة النظر فى الدور الاجتماعى للمدرسة والعمل على تمكينها من مواجهة التغيرات ولتكون بالفعل أداة لمواجهة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحلية و العالمية مما يتطلب تصميم برامج للتعليم قبل الجامعى من منظور المواطنة وتربية التلاميذ عليها وذلك بتمكينهم من الحصول على المعارف والاتجاهات والمهارات على قدم المساواة و التى تؤهلهم بالفعل لممارسة الحياة فى وطن يواجه تحديات عالمية عدائية وأيضا تحديات العولمة الكاسحة ولا يتحقق هذا إلا بمواطن يعتز بوطنه ويعترف بالتنوع فيه (وما خلافات الشباب الطافية على السطح إلا احد نماذج القصور فى قبول التنوع والاختلاف ومنها تنوع الأجيال ورؤيتهم لأنفسهم وللآخرين من حولهم) وأيضا فإن التربية للمواطنة كهدف أساسى للتعليم تنقذ الوطن من التحول إلى فئات متناحرة وقبائل متشاجرة وأبناء وطن يركبون قاربا متهالك يموتون فى عرض البحر هربا من نيران تأتيهم من جهات متعددة. فالحاجة إذن لتعليم يحقق المواطنة وهى عملية مستمرة عبر الأجيال وليس فى السنوات الأولى فقط .وحتى يتأتى لنا التماسك والالتزام والعمل لجعل مصر وطنا أفضل فإن الأساس هو العدالة والمساواة فى الحقوق والواجبات والفرص بين جميع أبناء الوطن الواحد. وإذا كان الهدف دوما هو المواطن المصرى فلابد من البدء بتعليمه وتحقيق وإتاحة فرص التعلمُ المستمر له ولأفراد أسرته ، فلا مهرب من هذا فى مرحلة زمنية تحتاج أن يمتلك الإنسان ليس فقط المهارات الأساسية من قراءة وكتابة وحساب ولغة اجنبية واساسيات التكنولوجيا الرقمية وغيرها بل لابد من اعتبار هذه المهارات الأساسية هى الركيزة التى يبنى عليها التعلمُ مدى الحياة ولكى يظل المواطن، مهما كان موقفه، يسعى لتجديد معارفه وامتلاك الاتجاهات والمهارات الوظيفية اللازمة لتغيير عمله أكثر من مرة على امتداد عمره مما يساعده للحياة الآمنة فى مجتمعه وثقافته وأيضا أن يكون قادرا على التعامل مع ثقافات الآخرين من خارج حدود وطنه، وان يكونوا أيضا قادرين ومرحبين بالمشاركة فى تنمية وتحسين ثقافة المجتمع المصرى من منظور أخلاقى والسعى لتحقيق مجتمع عادل يضم الجميع. والحاجة ماسة إلى وضع سياسة اقتصادية مؤسسة على تحقيق العدالة بين المواطنين ولن تكون إلا بامتثال الأغنياء لها حتى لو حد هذا من تراكم ثروتهم. ذلك أن العدالة أولوية فلا ينبغى ان تخضع للمساومات السياسية او الاجتماعية. والعدالة كما نراها هنا، وسبقنا غيرنا إلى هذا، تتأسس على فلسفة أخلاق الواجب، ذلك أن العدالة غاية وليست وسيلة لتحقيق أغراض مرتبطة بالحسابات التفاضلية للمصالح الاجتماعية. لابد وأن نتفق اذا على أن التغيير المطلوب هو الاتجاه لتنمية المبادئ المحققة للديمقراطية وتحديد المفاهيم المرتبطة بتعليم المواطنين للحياة فى وطن ديمقراطى يتقبل التنوع والاختلاف فى زمن العولمة. والبداية انما تكون فى إيجاد مدرسة تجمع الجميع ونظام تعليمى لا يفرق بين أبناء الوطن الواحد على أساس من القدرة على الانفاق. لمزيد من مقالات د. نادية جمال الدين