لماذا لا نبدع فى مجال الفلسفة؟ هذا سؤال طرحته فى مقالة سابقة، وقدمت عنه إجابة جزئية. يجب أن نبدأ بما يمكننا عمله؛ وما يمكننا عمله هو أن نوفر تعليما فلسفيا يساعد على ظهور المبدع. فتعليم الفلسفة كما يقدم الآن يحول بطبيعته دون ظهور النبوغ لأنه يعبر عن شك فى قدرتنا على التفلسف، وميراث متغلغل من العداء للفلسفة.ومن ثم كان برنامج الدراسة انتقائيا على نحو معيب. فهو يخلو من أى دراسة جادة للفلسفة الإسلامية بدعوى افتقارها إلى الأصالة بينما ينصب التركيز على علم الكلام والتصوف؛ كما يخلو من أى دراسة جادة للفلسفة اليونانية، ومن أى تغطية متوازنة للفلسفات الأوروبية الحديثة لأن ثمة إهمالا يكاد يكون تاما للفلسفة الألمانية.ومن الملاحظ أن مناهج الدراسة تصمم وفقا للكفاءات المتاحة، أى الأساتذة المتوافرين وميولهم وأهوائهم، ولا تصمم وفقا لرؤية استراتيجية متوازنة فى بحق الموضوع مع العمل على إعداد الكفاءات اللازمة إن لم توجد. يضاف إلى ذلك أن طرق تدريس الفلسفة تعتمد على التلقين والحفظ، ولا تشجع الطلاب وتدربهم على ممارسة البحث والتفكير الحر. ومحال أن تقوم فلسفة فى غياب هذا التفكير. فكأن مناهج الدراسة وطرق التدريس ما وضعت إلا لقتل روح الإبداع. ولدينا الآن إذن إجابة جزئية عن السؤال: كيف نبدع فلسفيا؟ إذ ينبغى أولا إصلاح تعليم الفلسفة كما يمارس فى الوقت الحاضر، والعمل على تقديم تعليم فلسفى متوازن ومتين فى الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية على حد سواء، وتدريب الطلاب فى الحالتين ومنذ البداية على ممارسة التفكير المستقل. وأعتقد أن هذا الجزء من العمل سهل نسبيا. ولكن هناك جزء آخر أصعب ولا يتحقق إلا فى ظل سياسة طويلة الأجل ومتعددة المستويات. وأعنى بذلك العمل على تعزيز التفكير العلمى، وبخاصة فى مجال العلوم النظرية الأساسية، سواء أكان ذلك فى المدرسة أم على المستوى الاجتماعى.فمصر لا تخلو من الكفاءات العلمية الممتازة، ولكن روح التفكير العلمى لم تتغلغل بعد لا فى المدرسة ولا فى المجتمع. بل يبدو أننا نحيا فى بيئة تشيع فيها روح الخرافة. ولا يقتصر ذلك على مستوى القواعد الشعبية والأميين، بل يمتد إلى مستوى العلماء المتخصصين (انظر مقالة “تجديد الخطاب: أصحاب الحق وأصحاب القدرة” لأحمد عبدالمعطى حجازى، الأهرام، 8 يونيو 2016). ولدينا إذن علماء لم ينفذ العلم إلى عقولهم ولا يرون فى تحصيل المعرفة العلمية إلا وسيلة لاجتياز الامتحانات والحصول على الشهادات والدرجات العلمية. ومعنى ذلك أن تعليم العلوم قاصر على نحو ما رأينا فى مجال تعليم الفلسفة، وأن ثقافة التلقين والحفظ شائعة فى الحالتين، وأن حمل الألقاب العلمية وما يترتب على ذلك من مزايا وامتيازات هو الهدف الذى لا هدف سواه، وأنه يوجد فى الحالتين عداء عميق الجذور للتفكير الحر. وقد أشرت إلى العلوم النظرية لأن بعض أعداء العلم يفضلون العلوم التطبيقية (مثل الطب والهندسة والصيدلة) والتكنولوجية. فهم أسعد حالا عندما يتعاملون مع الآلات والأدوات والمواد ويكتسبون المهارات اللازمة لذلك: يفرون إليها لتعفيهم من عناء التفكير والبحث ومن مواجهة التحديات التى يطرحها العلم النظرى على العقل، وليبقوا ثابتين على ما ورثوا وألفوا. ولكن ما شأن الفلسفة والعلم؟ لماذا يعد ازدهار العلم النظرى شرطا ضروريا لازدهار الإبداع الفلسفى؟ كان المرحوم زكى نجيب محمود يميل إلى القول إن الفلسفة انعكاس للعلم، فإذا تغير العلم تغيرت الفلسفة. وهو قول ينطوى على بذرة من الحقيقة، ولكنه ليس صحيحا تماما. وذلك أن الفلسفة تفترض بالفعل وجود ثقافة علمية راسخة لكى تبدأ عملها، ولكن لها فى عملها معاييرها وأدواتها الخاصة. الفيلسوف فى عمله لا يتصل بالواقع مباشرة، فذلك شأن الناس فى خبرتهم العادية والعلماء فى دراساتهم المنهجية. وهؤلاء يعرفون الواقع بأدواتهم المناسبة: عن طريق المشاهدة بالحواس المجردة، أو بالحواس المدعمة بالأجهزة والآلات، أو بالتجارب التى تجرى فى ظل ظروف مضبوطة فى المختبر. أما عمل الفيلسوف، فيقتصر على دراسة ونقدشهادات الغير على نحو نظرى بحت وفقا لما يمليه العقل. ويستطيع الفيلسوف أن يؤدى دوره النظرى دون أن يبرح مكانه فى مكتبه، أو فى قاعة الدراسة، أو فى “برجه العاجى” إذا شئت. وصحيح أن الفلاسفة كثيرا ما يتحدثون وكأن لهم منفذا مباشرا إلى الواقع أو الوجود. ولكننا إذا فحصنا إجراءاتهم المتبعة فى تحصيل المعرفة وجدناهم لا ينظرون فى الأشياء كما هى فى الواقع، بل يقتصرون على تحليل وتمحيص الأقوال والأفكار والمفاهيم المستخدمة فى وصف تلك الأشياء. ومن الممكن أن نقول إذن إن المعرفة التى تقدمها الفلسفة بعدية أو من المستوى الثانى بعد مستوى الإخبار المباشر عن الواقع. ويمكننا التدليل على ذلك بالرجوع إلى تاريخ الفلسفة.فما يقوله سقراط وأفلاطون وأرسطو – وهم ذروة الفلسفة اليونانية القديمة –هو نقد وتمحيص لآراء وفروض وأقوال أصدرها الحكماء والفلاسفة الأولون والسفسطائيون (أهل الشك والمغالطة) عن الطبيعة ومكوناتها. وليس من قبيل المصادفة أن الفلسفة وهى فى ذروتها وجدت فى تلك الحصيلة النواة اللازمةلأداء دورها. وأرسطو هو أوضح مثال على ذلك فى الفلسفة القديمة. كان فيلسوفا نظريا وعالما يعتمد على المشاهدة المباشرة فى وقت واحد. والأهم من ذلك أنه لا يبدأ التفلسف إلا بتمحيص أقوال الأوائل وإعادة صياغتها فى إطار السؤال الواحد الذى يعنيه، وهو: ما هو الموجود الأساسىفى إطار تصور شامل للكون؟ وشبيه بذلك ما فعله اليهود والنصارى والمسلمون عندما نقلت إليهم الفلسفة اليونانية. كان ذلك هو العلم الذى افترضوه لكى يبدأوا عملهم الفلسفى الخاص. وذلك أنهم وجدوا فى تلك الفلسفة، وفى فلسفة أرسطو بصفة خاصة، تصورا متكاملا للطبيعة والكون بصفة عامة. وعلى هذا الأساس “العلمى” تفلسفوا بطريقتهم الخاصة على ضوء ما جاء فى كتبهم المقدسة. وترجع أهمية الأرضية العلمية التى تفترضها الفلسفة إلى أنها (أى الأرضية) تتضمن صورة للطبيعة كنظام مكتف بذاته خاضع لحركته الذاتية وخال من تدخل العوامل الدخيلة. ولا تستثنى من ذلك أقوال الحمكاء والمفكرين قبل سقراط، فقد نحت فى مجموعها نحو تنقية النظام الطبيعى من العوامل الأسطورية وتدخل الآلهة المتعددين وفقا للديانة الوثنية؛ وقدمت فروضا طبيعية “علمية” عن مكونات العالم. والعلم – بمعنى معرفة ظواهر الطبيعة التى تخضع للقوانين السببية – هو بداية التفكير المنظم. وعندما يظهر العلم بهذا المعنى تسنح الفرصة لظهور الفلسفة من أجل التوصل إلى مزيد من الفهم. وها هى إذن فكرة فى حاجة إلى شرح. العلم لعبة محدودة لأنها بطبيعتها ومنذ البداية مقيدة بشروط. فالعلم كما قلنا يعتمد أساسا على المشاهدة، سواء أكانت بالحواس العادية أم بالمشاهدة المعانة بالأجهزة أم بالمشاهدة الخاضعة لقيود التجربة فى المختبر. يضاف إلى ذلك أن العلم بطبيعته يفضل الجانب الكمى من الأشياء والظواهر القابلة للقياس.والعلم يسلك الظواهر فى إطار صيغة سببية: إذا كانت ألف، كانت باء. فهو يهدف إلى تمكين الإنسان من السيطرة على مجرى الأحداث. فإذا استطعنا أن نحدث ألف (تسخين الحديد مثلا) حدثت باء (تمدد الحديد بالحرارة). أما الفلسفة، فهى محاولة للفهم دون حدود إلا ما يمليه العقل الفطن.يقول المتنبى: “وفى النفس حاجات وفيك فطانة”. والفطانة فى لغة العرب هى التنبه (لما كان مضمرا أو خافيا). والفلسفة إذ تفترض تلك المعرفة تطبق معاييرها الخاصة بالأولوية فتتنبه لما أضمره العلم أو خفى عليه بسبب قيوده. فهى تنقد المعرفة العلمية فتشرح مناهجها المتبعة وتبين حدودها وتقيم حظها من اليقين، وتسمى عندئذ فلسفة العلم. ويتخذ النقد الفلسفى أحيانا صورة الكشف عن الأسس والشروط اللازمة لقيام العلم، أو صورة الكشف عن القيود والاتجاهات والدوافع التى تحرك البحث العلمى (مثل تفضيل الكم والقياس، أو الرغبة فى السيطرة على مجرى الأحداث وشهوة القوة)؛ وهى تتنبه (تفطن) إلى “الحاجات” (الاحتياجات) العميقة للإنسان، وتنبه إلى أن فى الوجود جوانب أخرى مهمة غير الكم ولا تختزل فيه. ولكن يحدث أحيانا أن تقع مهمة التنبه على العقل العلمى. يحدث هذا بصفة خاصة فى حالة الثورات العلمية والاكتشافات الكبرى. وهو ما حدث عندما ظهرت الفيزياء المعاصرة، وأثبتت أن الأشياء المادية التى نشاهدها تتألف فى النهاية من جزيئات أساسية مثل الإلكترونات. وهى جزيئات لا ترى أصلا ولا تخضع فى سلوكها لقوانين سببية ضرورية، وقد لا ينطبق عليها تماما مفهوم الجسم (الجزيء) ولا مفهوم الموجة، ففيها شيء من هذا وشيء من ذاك بحيث توصف أحيانا بأنها جزيئات موجات. والعلم فى هذه الحالة يتحدى الفلسفة ويطالبها بإبداء المرونة لأن مفاهيمها وقوالبها الموروثة لم تعد تتسع للكائنات الجديدة. وعلى الفلسفة عندئذ أن تلبى هذه الحاجة وتبدى المرونة اللازمة لكى تستقبل الكائنات الجديدة فى مكانها اللائق بين الكائنات. غير أن الفلسفة، عندما تلبى هذه الحاجة العلمية وتجد المكان اللائق للكائنات المكتشفة، لا تضع هذه الكائنات فى مكان مطابق بالضرورة لما أتاحه العلم لها. قد تكون الجزيئات أساسية وفقا للعلم، ولكنها ليست أساسية بالضرورة بميزان الفطانة الفلسفية. فلنقل إذن إن الفلسفة تلبى الاحتياجات العلمية، ولكن بطريقتها الخاصة بها. ولكنى أترك شرح ذلك لمناسبة أخرى. وهناك إذن تفاعل بين الفلسفة والعلم، ولكنه تفاعل يحدث فى جميع الحالات مع افتراض الفلسفة للعلم. فهى تفترض العلم سواء طالبته بالمرونة أم طالبها هو بها. ومثل هذا الحوار الذى يجرى وفقا لموازين دقيقة من الخبرة والعقل غير ممكن إذا سادت الخرافة وأشاعت الفوضى الفكرية حتى بين أهل العلم، كما هو الحال فى ظل الأوضاع الراهنة. ففى ظل هذه الأوضاع لا مجال لنشوء علم جدير بهذا اللقب، ومحال أن تكون هناك فلسفة. لمزيد من مقالات د.عبدالرشيد محمودى