فى وقت قصير من حيث الزمن تغيرت أشياء فى حياة المصريين حتى ان البعض يقول لو ان مصر فى الأعوام الثلاثين الماضية سارت بهذا الإيقاع وبهذه الانجازات لتغيرت صورة الحياة ووجدنا أنفسنا أكثر رخاء وعدلا ورفاهية، فى زمن قليل أصبح لدينا شبكة طرق لم تشهدها مصر من قبل وبلا ضجيج أو حفلات افتتاح كاذبة وجدنا شبكة كهرباء وفرت لنا مصادر جديدة للعمل والإنتاج والحياة وبدأت حشود المهمشين من سكان العشوائيات تجد أملا فى بيت نظيف وشوارع مرصوفة وحياة أكثر كرامة ،وبجانب هذا كله هناك عشرات المشروعات التى تم انجازها فى وقت قياسى بجهد مشترك بين جيش مصر والقطاعات المدنية فى كل ارجاء المحروسة..اعرف ان بناء الحجر اسهل كثيرا من بناء البشر واعلم ايضا ان ثروة مصر الحقيقية كانت طوال تاريخها فى الإنسان وان هذا النموذج الرفيع فى الإنسان المصرى كان قياس التقدم والحضارة والرقى ليس فى المنطقة العربية ولكنه كان نموذجا فريداً فى مصاف الدول المتقدمة كانت مصر بعد الحرب العالمية الثانية اكثر امنا وتقدما ورقيا من جميع دول اوروبا التى دمرتها الحرب .. ان إنشاء الطرق ضرورة لانتقال البشر ولكن ماذا عن البشر هنا اتوقف عند اخطر واهم قضايا مصر وهى التعليم، مثل كل الأشياء التى دمرتها السياسات العشوائية المتخبطة وقع التعليم فى مصيدة رأس المال والتجارة وتشويه الشخصية المصرية فى كل شيء .. نحن الآن نعيش واحدة من آخر المآسى التى مرت على التعليم فى مصر وهى الثانوية العامة وما حدث من تسريبات وتجاوزات وكوارث طوال الفترة الماضية ..لاشك ان التعليم اهم من كل شئ كان الموظف البسيط يدخر كل شئىء ليحصل ابنه على اعلى الشهادات وكان الفلاح المصرى يبيع القراريط آخر ما يملك من حطام الدنيا ليعلم الأبناء وكانت الأم تعمل فى البيوت وابناؤها فى الجامعات وفى ظل هذا المناخ تخرجت اجيال واجيال ومن بين ايدى الأم المصرية التى لا تقرأ ولا تكتب خرجت رموز مصر العظيمة فى كل المجالات وشهدت مصر ميلاد وطن جديد على يد هؤلاء الآباء العظام وهؤلاء الأبناء القدوة والنموذج، لا اعتقد اننا يمكن ان نؤجل قضية التعليم اكثر من هذا نحن امام نموذجين متعارضين تماما فى كل شىء .. نحن امام التعليم المجانى الذى لم يعد مجانيا امام الدروس الخصوصية فى المدارس والجامعات وامام امكانيات علمية ودراسية تخلفت منذ سنوات عن العصر ولا يعقل ان معامل كلية علوم جامعة القاهرة لم تشهد تطويرا من ايام الملك فؤاد، ان التعليم يحتاج الى ثورة فى المناهج والمعامل والمدرجات وينبغى ان يسبق كل مجالات الإنفاق فى الدولة المصرية ما قيمة الملايين الذين يتخرجون من الجامعات ويحصلون على الشهادات العليا وهم غير مؤهلين علميا او وظيفيا او مهنيا .. وما هى القدرات التى اكتسبوها فى معامل او مكتبات او مراجع انتهى عمرها الافتراضى ان التعليم المجانى يحمل من الاسم فقط انه بلا مقابل فى حين انه لا يقدم النموذج الصحيح لخريج الجامعة فى كل المجالات .. لدينا كليات للعلوم والزراعة والهندسة والطب ونحن نعانى من التخلف فى جميع المكونات البشرية والمهنية والقدرات الخاصة لكل هذه التخصصات ماذا نفعل كل عام بالملايين الذين حصلوا على الشهادات الجامعية حيث لا عمل ولا خبرة ولا قدرة على الإنتاج .. ان الجامعات تشكو من انحدار المستوى الفكرى واللغوى والثقافى لخريجيها لأنهم لا يتحدثون لغة العصر ولا يتابعون ما جرى فيه، كانت مجانية التعليم فى يوم من الأيام حصنا من حصون العدالة الاجتماعية فى مصر والآن اصبحت عبئا على الأسرة والدولة والطاقة البشرية التى كانت اكبر مصادر الثراء فى المجتمع المصرى .. ان مجانية التعليم تحتاج الى ثورة فى كل مكوناتها المالية والدراسية ومناهجها ومستوى التدريس فيها ولابد ان تكون لنا وقفة من اجل برامج تعليمية تناسب العصر وتتحدث لغته .. فى مقابل منظومة التعليم المجانى وهو اقدم مقومات تاريخ التعليم فى مصر من حيث الأهمية والزمن تسربت الى حياتنا منظومة اخرى حديثة هى التعليم الخاص سواء المدرسى او الجامعى وقد كبرت هذه المنظومة وتشعبت وتنوعت حتى اصبحت مجرد غابة تجمع الكثير من الأشجار مجهولة النوع والثمار والأيدى .. فى مصر الآن مئات المدارس الخاصة فى كل مراحل التعليم وهناك عشرات الجامعات الخاصة التى تحولت الى مصادر للتجارة والربح تجاوزت كل الحدود، لا اعتقد ان فى العالم كله دولة قد سمحت باختراق كل هذه النماذج المتعارضة لتشكيل منظومتها التعليمية إن فى مصر الآن مدارس باللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية واليابانية والإيطالية ولدينا جامعات انجليزية وامريكية والمانية وكندية وفرنسية وكل هذه الجامعات تدرس المناهج بلغاتها وتحولت اللغة العربية الى ضيف لقيط على مائدة اللئام .. سوف تظهر قريبا فى مصر اجيال لا تتكلم اللغة العربية ولعل هذا الإنتاج المشوه والعشوائى يظهر فى المستوى الثقافى عند الأجيال الجديدة من الخريجين..ان هذا الإنتاج البشرى المختلط سوف يقدم لنا نماذج بشرية غاية فى التناقض ولنا ان نتصور اسرة فيها اربعة ابناء احدهما درس الألمانية والآخر درس الإنجليزية وهناك من درس اليابانية وجميعهم لا يجيد لغته الأم اللغة العربية كيف يتواصل هؤلاء فى الفكر والحوار .. نحن امام نماذج فقيرة للغاية يقدمها لنا التعليم المجانى وامام نماذج اخرى مشوهة يقدمها لنا التعليم الخاص بكل توجهاته .. ان الغريب فى الأمر ان الواقع الاجتماعى المصرى وهو شديد الاختلاف والتناقض انعكس بصورة فجة على قضايا ثلاث السكن والتعليم وتكافؤ الفرص .. نحن فى السكن امام المنتجعات والعشوائيات وفريق من البشر تصور انه يمكن ان يعيش فى عزلة عن باقى المجتمع حيث اقام القصور والأسوار والأمن لحماية نفسه من بقية المجتمع وفى جانب آخر نحن امام فريق آخر من اصحاب العشوائيات يعيش خارج الزمن والمجتمع .. وما حدث من انقسام طبقى فى السكن حدث فى التعليم فنحن امام مدارس اجنبية تدفع مصاريفها بالدولار وامام تعليم مجانى لا هو مجانى ولا هو مدفوع الثمن .. ومن خلال هذه التقسيمة التعسفية فى السكن والتعليم تهبط علينا لعنة غياب تكافؤ الفرص حيث تسقط ثمار الأشجار على فريق من الناس وتترك الباقين لمصير مجهول .. ان اخطر ما حملته منظومة التعليم فى مصر انها اكدت قضية الانقسام الطبقى بين المصريين انه واضح بين العشوائيات والمنتجعات ولكن الأجيال القادمة ستكون اكثر انقساما وتناقضا فى الفكر والسلوك وتكافؤ الفرص، إذا كان الانقسام الطبقى فى مصر قد اخترق السكن والتعليم فقد وضع مصر فى إطار من التناقض لا يتناسب مع تركيبة الإنسان المصرى الذى عرف التواصل والتراحم منذ آلاف السنين .. قد يكون التناقض فى منظومة التعليم اخطر واسوأ جوانب الانقسام فى حياة المصريين لأنه سيتحول مع الأجيال القادمة الى سلوكيات متناقضة وفكر مختلف وواقع اجتماعى وثقافى يفتقد الولاء والأمن الاجتماعى . من هنا تأتى خطورة تأجيل إصلاح منظومة التعليم فى مصر فلم تعد فقط منظومة ثقافية فى تشكيل البشر ولكنها تحولت الى لغة مصالح تلعب فيها رءوس الأموال دورا كبيرا وتحركها اطراف كثيرة داخلية وخارجية ومنها ما يخفى اهدافا ومطامع نحو نموذج انسانى معين قد لا يكون الوطن فى مقدمة اولوياته . ماذا يعنى اهمال اللغة العربية وما حدث لها من تراجع على كل المستويات فى كل مراحل وانواع التعليم .. هناك اجيال لا تعرف لغتها ولنا ان نتصور دولا مثل المانيا وفرنسا ومدى اعتزازهما باللغة حديثا وتعليما ودراسة ونظاما .. ماذا يعنى اهمال تاريخ الوطن بحيث تحول الى مجرد سطور قليلة فى مراحل التعليم المختلفة بينما يدرس ابناؤنا تاريخ الدول الأجنبية فى مدارسنا. ان ابناءنا الآن يدرسون تاريخ انجلترا وفرنسا والمانيا وايطاليا اكثر مما يدرسون تاريخ مصر فى كل مراحله . ماذا يعنى كل هذا الاستثمار الضخم فى التعليم الأجنبى الخاص فى مصر ولماذا لم يتجه جزء من هذه الأموال لإنشاء مدارس عربية خاصة تحرص على تراث هذه الأمة وثوابت هذا الشعب .. لماذا كل المدارس الخاصة التى انشئت فى السنوات الماضية تحمل اسماء اجنبية فى لغتها ومناهجها وافكارها .. اننا لا ننكر ابدا اهمية ان يكون التعليم شيئا معاصرا وهل من الصعب ان يتحقق ذلك فى ظل منظومة تعليمية تحمى تراث الأوطان ولغاتهم وتاريخهم .. لماذا نتشعبط دائما فى كل ما هو اجنبى .. ان اليابان تدرس باللغة اليابانية كل شىء وكذلك الصين وفرنسا والمانيا ويدرسون تاريخ بلادهم بلا تشويه او تحايل .. ان كل تأجيل لإصلاح منظومة التعليم وقت ضائع وتبديد لأهم ثرواتنا وهى البشر وفى ظل مناخ قسم المجتمع الى فئات وطبقات سوف نجد بين ايدينا اجيال لا تدرك قيمة وطن او لغة او ثقافة .. نحن فى حاجة الى التعليم الخاص بشروطنا نحن وليس بشروط قوى أخرى ترى فيه وسيلة لتشويه الأوطان وتدمير ثوابتها . ماذا يبقى للإنسان حين يتخلى عن لغته وينسى تاريخه ولا يشعر بقيمة رمز او مكان او قضية .. وفى ظل انفتاح رهيب يعيشه إنسان هذا العصر لابد ان تحافظ الشعوب على ما بقى لها من مقومات وجودها .. امام هذا الإعلام الصاخب الذى كسر كل الحدود وامام هذه الثقافات المتوحشة التى تأكل بعضها يصبح من الضرورى ان نراقب التعليم فى بلادنا وان نضع من الخطط والبرامج والثوابت ما يحمى اجيالنا القادمة يكفى ما يتعرض له ابناؤنا من حشود النت والفضائيات وإذا كانت هناك دعوات للتقدم فإن الأخطر ان التخلف ايضا مازالت له قوى تدافع عنه . قصيدة «لو اننا لم نفترق» سنة 1998 ..ويبقى الشعر لوْ أنَّنَا .. لمْ نَفْتَرقْ لبَقيتُ نجمًا في سَمائِكِ ساريًا وتَركتُ عُمريَ في لهيبكِ يَحْترقْ لَوْ أنَّنِي سَافرتُ في قِمَم ِ السَّحابِ وعُدتُ نَهرًا في ربُوعِكِ يَنطلِقْ لكنَّها الأحلامُ تَنثُرنَا سرابًا في المدَي وتَظلُّ سرًا .. في الجوَانح ِ يَخْتنِقْ لوْ أنَّنَا .. لمْ نَفْتَرقْ كَانَتْ خُطانَا فِي ذهول ٍ تَبتعِدْ وتَشُدُّنا أشْواقُنا فنعُودُ نُمسِكُ بالطَّريق المرتَعِدْ تُلقِي بنَا اللَّحظاتُ في صَخبِ الزّحام كأنَّنا جَسدٌ تناثَرَ في جَسدْ جَسدَان في جَسدٍ نسيرُ .. وَحوْلنَا كانتْ وجوهْ النَّاس تجَري كالرّياح ِ فلا نَرَي مِنْهُمْ أحد مَازلتُ أذكرُ عندَما جَاء الرَّحيلُ .. وَصاحَ في عَيْني الأرقْ وتَعثَّرتْ أنفاسُنَا بينَ الضُّلوع وعَادَ يشْطرُنا القَلقْ ورَأيتُ عُمريَ في يَدَيْكِ رياحَ صَيفٍ عابثٍ ورَمادَ أحْلام ٍ.. وَشيئًا مِنْ ورَقْ هَذا أنا عُمري وَرقْ حُلمِي ورَقْ طفلٌ صَغيرٌ في جَحيم الموج حَاصرَه الغَرقْ ضَوءٌ طريدٌ في عُيون الأفْق يَطويه الشَّفقْ نجمٌ أضَاءَ الكونَ يَومًا .. واحْتَرقْ لا تَسْألي العَينَ الحزينة َ كَيفَ أدْمتْها المُقَلْ .. لا تَسْألِي النَّجمَ البعيدَ بأيّ سرّ قد أفَلْ؟ مَهمَا تَوارَي الحُلمُ فِي عَينِي وَأرّقنِي الأجَلْ مَازلتُ المحُ في رَمادِ العُمْر شَيئًا من أمَلْ فَغدًا ستنْبتُ في جَبين ِالأفْق نَجماتٌ جَديدهْ وَغدًا ستُورقُ في لَيالِي الحزْن أيَّامٌ سَعِيدة ْ وغدًا أراكِ عَلي المدَي شَمْسًا تُضِيءُ ظلامَ أيَّامي وإنْ كَانَتْ بَعِيدهْ لوْ أنَّنَا لَمْ نَفترقْ حَملتْكِ في ضَجر الشَّوارع فَرْحتِي والخوفُ يُلقينِي عَلي الطُّرقاتِ تتمَايلُ الأحلامُ بينَ عُيوننَا وتَغيبُ في صَمتِ اللُّقا نبضَاتِي واللَّيلُ سكّيرٌ يُعانِقُ كأسَه وَيَطوفُ مُنْتَشِيًا عَلي الحانَاتِ والضَّوءُ يَسْكبُ في العُيُون بَريقَه وَيهيمُ في خَجل ٍ عَلي الشُّرفَاتِ .. كُنَّا نُصَلّي في الطَّريق ِ وحَوْلَنا يَتنَدَّرُ الكُهَّانُ بالضَّحكَاتِ كُنَّا نُعانِقُ في الظَّلام دُموعَنا والدَّربُ مُنفطٌر مِنَ العَبراتِ وتوقَّفَ الزَّمنُ المسافِرُ في دَمِي وتَعثَّرتْ في لَوعةٍ خُطوَاتي والوَقتُ يَرتَعُ والدَّقائِقُ تَخْتَفي فنُطَاردُ اللَّحظَاتِ .. باللَّحظَاتِ .. مَا كُنتُ أعْرفُ والرَّحيلُ يشدُّنا أنّي أوَدّعُ مُهْجتِي وحيَاتِي .. مَا كانَ خَوْفِي منْ وَدَاع ٍ قدْ مَضَي بَلْ كانَ خوْفِي منْ فِراق ٍ آتي لم يبقَ شَيءٌ منذ ُكانَ ودَاعُنا غَير الجراح ِ تئنُّ في كلِمَاتي لوْ أنَّنَا لَمْ نَفترقْ لبَقِيتِ في زمن ِالخَطِيئَةِ تَوْبَتِي وجَعَلتُ وجْهَكِ قبْلَتِي .. وصَلاتِي لمزيد من مقالات فاروق جويدة