كان الشاعر الرقيق والزميل الصحفى محمد حمزة من أكثر جيلنا حظاً وتوفيقاً بالنسبة للأغنية وعلى مدى سنوات قلائل تغنت بأشعاره معظم نجوم الغناء بمصر و الوطن العربى، وكان حمزة رحمه الله يرفض الاتصال بأى صحفى زميل له ليبلغه عن أخباره الفنية منعاً لإحراجه، ويطلب منه الاتصال بالملحنين الكبار الثلاثة بليغ حمدى وكمال الطويل ومحمد الموجى، فعندهم أخباره الفنية، وكان يفعل ذلك حتى يضمن اكتمال الألحان قبل النشر وكان يرفض أيضاً الاتصال بأى مذيع أو مقدم برامج فى الإذاعة والتليفزيون للتوصية بإذاعة أغانيه، وقد تسبب ذلك فى إذاعة بعض أغانيه بأسماء شعراء آخرين وحدث ذلك معى شخصياً عندما اتصلت بى إحدى مقدمات البرامج لتبلغنى بأن أغنيتى ستذاع فى الثامنة مساءً فقلت لها أى أغنية فقالت: « يا حبيبتى يا مصر» ، فقلت لها: هذه الأغنية ليست من تأليفى ولكنها من تأليف الشاعر محمد حمزة أما أغنيتى فهى « يا حبايب مصر» لعليا التونسية تلحين حلمى بكر، شكرتنى المذيعة على هذا التوضيح وقامت بتصحيح هذا الخطأ ، وحققت أغنية « يا حبيبتى يا مصر» للفنانة شادية نجاحاً مبهراً وتم إخراجها وتصويرها بنجاح ( فكرة وإخراج سميحة الغنيمى ) ونسيت أن تكتب تأليف محمد حمزة وتلحين بليغ حمدى حتى تتعرف الأجيال الجديدة على أسماء المؤلف والملحن، وتوثقت العلاقة بين بليغ حمدى ومحمد حمزة بدرجة كبيرة كان يحسده عليها الأخرون فلا يفتتح موسم غنائى على مدى عشر سنوات إلا بلحن لبليغ وتأليف حمزة وغناء عبد الحليم حافظ مثل « زى الهوى» , « سواح»، «نبتدى منين الحكاية» وأغنيات أخرى لفنانات أخريات مثل نجاة وشادية و فايزة أحمد ... ويتواصل نجاح محمد حمزة فتطلب منه الفنانة وردة كتابة أغنية جديدة لها يلحنها بليغ حمدى وكان يعرف مدى علاقة الحب التى تجمع بينهما رغم بعد المسافات فهى موجودة فى الجزائر وبليغ موجود فى القاهرة فكتب مذهب الأغنية من واقع حبهما لبعضهما، وتشاء الظروف أن يسافر بليغ حمدى إلى الجزائر لتسجيل أغنية لوردة بمناسبة عيد الاستقلال ليلتقيا معا، ويتم التسجيل فى ستوديوهات الجزائر وتفرح وردة بوجود بليغ حمدى وتسأله : هل أعطاك حمزة مذهب الأغنية ؟ وكان بليغ قد لحنه بالفعل وفى بيتها استمعت إلى المذهب بصوت بليغ وكادت تطير من الفرحة الذى يقول : « وعملت إيه فينا السنين ..فرقتنا .. لا .. غيرتنا .. لا .. ولا دوبت فينا الحنين .. لا الزمان .. ولا المكان .. قدروا يخلوا حبنا .. ده يبقى كان .. أد أغانى الصبر بحبك .. أد اللى فات من عمرى بحبك .. أد اللى جاى من عمرى بحبك» وتتأثر وردة بالكلام واللحن كما يتأثر بليغ فى نفس الوقت بأداء وردة وتنتهى الليلة ويطلب منها بليغ أن تعود إلى القاهرة لأنها بوابة الشهرة لكل فنان ووعدها استكمال لحن الأغنية لتسجيله فى الإذاعة وتتأخر وردة فى الحضور إلى القاهرة لظروف شخصية ثم تعود إلى القاهرة ليبدأ بليغ بالاتصال بالشاعر محمد حمزة ويحضر بقية الكلمات لوردة ويقرأها فى وجود بليغ ووجدى الحكيم اللذان كانا فى استقبالها عند مجيئها للقاهرة ويقرأ محمد حمزة النص الكامل لأغنية « العيون السود» وأمام وردة وبليغ ولم يطلبا أى تعديل سواء فى المذهب أو الكوبليهات ، ويشيدان فعلاً بما عبر عنه حمزة عن علاقة الود التى تربط بين بليغ ووردة ، ليذهب بليغ إلى شقة وردة ويغنى معها على العود المذهب أكثر من مرة وتغنيه معه أيضاً. وفى صباح اليوم التالى كان بليغ حمدى قد كتب بخط يده النوتة الموسيقية للأغنية كاملة (وكان يجيد كتابة النوتة ) وتم طبعها ليحضر بليغ ومعه النوت الموسيقية ويوزعها بنفسه على كل أعضاء الفرقة الماسية ، و يجرى معهم بروفة تمهيدية فى الاستوديو حتى يتأكد من سلامة اللحن ثم يدعو الفنانة وردة بعد ذلك للحضور إلى الاستوديو وتستمر بروفات الأغنية لمدة عشرة أيام بحضور مجدى العمروسى مستشار صوت الفن والفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن ، وقد تسبب عدم حضور وردة إلى القاهرة تعطيلا للتسجيل امتد شهرا أو شهرين، ولكن بعد حضور وردة اتصل بليغ بالفنانة نجاة التى غنت له كثيرا من ألحانه الناجحة ويبلغها أن وردة موجودة فهنأتها بوجودها فى القاهرة وهكذا كانت أخلاق الفنانين والفنانات فى زمن الفن الجميل، ويتحدد موعد إذاعة الحفل على الهواء ويطلب منها الجمهور إعادة المذهب مرتين ، وتتألق فى أدائها بالمقطع الذى يقول : « كل ليلة من ليالى البعد عدت علينا .. وانت مش جنبى يا حبيبى .. يا نور عنيا .. أد الليالى دية وأكثر شوية بحبك .. أد عمرى ونور عنية .. يا نور عنية بحبك .. أد اللى فات من عمرى بحبك .. وأد اللى جاى من عمرى بحبك .. بحبك والله بحبك .. أد العيون السود بحبك .. و انت عارف أد إيه العيون السود كتيرة فى بلدنا ياحبيبى» وتبلغ قمة أدائها فى هذا المقطع ويفرح بليغ حمدى ومجدى العمروسى فى وجود وجدى الحكيم أيضاً بما حققته أغنية «العيون السود» من نجاح ليتسلم مجدى العمروسى شريط التسجيل ليطبع على اسطوانات صوت الفن لتوزع بين القاهرةوالجزائر فى اليوم التالى لإذاعة الأغنية فى القاهرة، وكانت هذه الأغنية سبباً فى زواج بليغ من وردة الذى رحب به شقيقه الكاتب الكبير مرسى سعد الدين وشقيقته صفية حمدى وأصدقاؤه ومحبيه وفى مقدمتهم الإذاعى الكبير وجدى الحكيم الذى كان قد سجل لوردة فى تسجيل أغنية العبور « وأنا على الربابة باغنى» عندما كان مراقباً عاماً للموسيقى والغناء فى الإذاعة وكان بابا شارو رئيسا للإذاعة وتمر الأيام والشهور والسنين ليكون وجدى الحكيم أيضاً إلى جوار الفنانة وردة عندما اشتد عليها المرض فى القاهرة وتوفاها الله ليحمل جثمانها إلى الجزائر،حيث مثواها الأخير .. رحم الله الجميع بقدر ما قدموه من فنون غنائية راقية ورائعة ترددها الجماهير على مدى سنوات طويلة.