عقارب الساعة تعلن تمام الثانية عشر منتصف الليل، والموسيقار بليغ حمدي لم يصعد بعد إلى منزل كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، لحضور بروفة "الف ليلة وليلة" كما كان مرتّب لذلك.. أصوات أم كلثوم تتعالى متعجبّة من موقف الموسيقار الذي طالب الإعلامي الراحل وجدي حكيم الصعود حتى يقوم هو ب"ركن" السيارة بالقرب من منزلها، ولكن مع طول الانتظار تأكد الجميع أن الأمر ليس طبيعيًا. تركهم حمدي لأكثر من يومين، وحال ظهوره أكد لهم أنه سافر إلى بيروت لاستكمال اللحن بصورة أفضل، تعجّبت سيدة الغناء العربي من موقفه إلّا أنها وبحسب حديث حكيم "لم تغضب وتفهمت الوضع". تحلّ اليوم السبت الذكرى الثانية والعشرين لرحيله عن عالمنا، بعد أن أثرى الحياة الفنية بالعديد من الألحان التي ستظل عالقة في أذهاننا، حيث قدّم حمدي لكوكب الشرق ألحانًا كانت سببًا في تهافت المغنيين عليه. بليغ بن عبد الحميد حمدي مرسي، الذي ولد في السابع من أكتوبر عام 1931 في حي شبرا بالقاهرة لأب يعمل أستاذًا للفيزياء في جامعة القاهرة، درس الحقوق إلى جانب دراسته للموسيقى في معهد الموسيقى العربية. جاءت بدايته الفنية بعد أن تمكّن مستشار الإذاعة المصرية آنذاك محمد حسن الشجاعي من إقناعه باحتراف الغناء، وبالفعل قام بليغ بتسجيل أربع أغنيات للإذاعة، إلّا أنّ تفكيره كان متجهًا نحو التلحين، فبدأ مشواره التلحيني من خلال أغنيتين للفنانة فايدة كامل بعنوان "ليه لأ" و"ليه فاتني ليه"، ثم أغنية بعنوان "متحبنيش بالشكل ده" للفنانة فايزة أحمد. في عام 1957 كانت الإنطلاقة الحقيقية له، بعد أن توطّدت علاقته بالفنان محمد فوزي الذي أعطاه فرصة التلحين لكبار المطربين والمطربات من خلال الشركة الفنية التي يملكها "مصر فون"، كما عرَّفه على كوكب الشرق أم كلثوم، وقدّم لها أول ألحانه لأغنية "حب إيه" عام 1960 التي لاقت نجاحًا ساحقًا. تزوج حمدي من الفنانة الجزائرية وردة عام 1973 بعد قصه حب كبيرة، بدأت بمقابلة في بيت محمد فوزي عند مجيئها إلى مصر وهي في السادسة عشر من عمرها، ليقوم الموسيقار بتلحين أغنية "يا نخلتين في العلالي" لها بعد أول لقاء.
تقدّم بليغ لخطبتها ولكن والدها رفض بشدة وطرده من المنزل، لتتزوج بعد ذلك من الظابط جمال قصر، واعتزلت الغناء، وظل بليغ بانتظارها رافضًا الزواج من أخرى. مازحته أم كلثوم أكثر من مرة قائلة، "أنت بتشتغلني كوبري للبنت اللي بتحبها؟!"، بعد مقدمات أغانيه التي كتبها لها، "بعيد عنك، والحب كله، وسيرة الحب، وأنساك". كتب ل"حبيبة قلبه" أغنية "العيون السود" التي تركها في مكتبه كثيرًا رافضًا أن يغنيها أي شخص، حتى أتتّه الفرصة ورآها بعد استقلال الجزائر حينما كان ذاهبًا ليحل محل السنباطي وحينما رأته وردة، عاودها الحنين إليه وطلبت الطلاق من زوجها. كرّس بليغ كل ألحانه خلال فترة زواجه لوردة، ليودعها بأغنية "بودعك" التي ترددت وردة كثيرًا في البداية من غناءها ولكنها قبلت في النهاية، ويشاع أن أغنية "الحب اللي كان" التي كتبها بليغ لميادة الحناوي كان قد كتب كلماتها لوردة بعد انفصالهما مباشرة. يُعد بليغ حمدي، أحد أكثر الملحنين تأثيرًا في الوجدان المصري والموسيقى العربية، وذلك لتنوع موسيقاه ما بين الشعبية الرومانسية والوطنية الحماسية، وإدخاله للموسيقى والإيقاعات الشعبية المصرية بطريقة تتناسب مع أصوات المغنين الكبار.
قدّم خلال مشواره الفني العديد من الألحان لكبار المطربين أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وشادية ووردة ونجاة وميادة الحناوي، كما ساهم في اكتشاف الكثير من المواهب الجديدة منهم الفنانة عفاف راضي ومحمد الحلو وعلي الحجار ومحمد العزبي. تعاون بليغ مع الفنانة شادية في عِدة أعمال خالدة، تنوعت بين أعمال فلكلورية وعاطفية ووطنية، نذكر منها على سبيل المثال، "والنبى وحشتنا ويا حبيبتى يا مصر وأدخلوها سالمين وخدنى معاك والأغنيه الأشهر في تاريخ شادية يا أسمراني اللون" بجانب تلحينه لأغاني فيلم "شئ من الخوف" وتقديمه في هذا الفيلم أجمل ألحانه المُعبّرة عن صعيد مصر وأشهرها أغنية "يا عيني ع الولا". كما تعاون مع الفنانة نجاة وقدّم لها عده أغاني رائعة "أنا بستناك وكل شيء راح والطير المسافر وسكة العاشقين وسهران يا قمر وحبك الجبار"، ولكن أشهرها هي "أنا بستناك". أما مع مطربة الجيل ميادة الحناوي، فقد قدّم لها عشرات الأغاني الناجحة مع عدد من الشعراء الكبار وكان عطاء العشر سنين الأخيرة لبليغ حمدي موجّه بشكل حصري تقريبًا للمطربة ميادة، التي غنّت من كلماته وألحانه "الحب اللي كان" و"أنا بعشقك". قدَّم الموسيقي التصويرية للكثير من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية منها شئ من الخوف والعمر لحظة وآه يا ليل يا زمن وريا وسكينة وزقاق المدق. وصفه الشاعر الكبير كامل الشناوي، بأنه أمل مصر في الموسيقى، قائلًا، "بليغ حمدي طالب حقوق فاشل، ولكنه أمل مصر في الموسيقى"، ولُقب أيضًا بسيد درويش العصر وكان لقبه الأشهر "ملك الموسيقى".