حين طلبت منه فنجان القهوة مرات ولم يأت به ظننت أنه لايسمع، جلست صامتا فى ركن قصى من أركان المقهى أرقب – دون هدف محدد – الزبائن المتناثرين فى الساحة الواسعة الملحقة بالمقهى فى الهواء الطلق وهم ينادون عليه: الشيشة يا محمود، الشاى يامحمود، النار فين يابنى؟! وحين يضيق صدر أحدهم ينتفض من مكانه حاملا حجر المعسل الفارغ ليجهزه بنفسه ويعود مكانه، ومحمود يسير بقامته الفارعة النحيلة وبشرته السمراء وشعر رأسه المهوش وملابسه الرثة ونظراته الزائغة، شاردا، بلاهدف واضح بين ترابيزات الزبائن, أحيانا يحمل صينية فارغة، أو عليها بضعة أكواب فارغة، أو يحمل مصفاة مليئة بفحم غير ناضج لم يصل بعد إلى درجة الاحمرار، يهزها يمينا ويسارا غير آبه بالشرر المتطاير منها هنا وهناك, ثم يعود إلى داخل المقهى ليضع المصفاة لينطفىء الفحم مرة أخرى، ويعود لإشعاله مرة أخرى، وأحيانا قليلة أراه حاملا بعض طلبات الزبائن فيبتهج هؤلاء ويشكرونه كثيرا ويثنون على نشاطه وخفته وهم يهزون رءوسهم ويحوقلون. لكنه فى كل الأحوال تكاد عيناه لاتفارقان شاشة تليفزيون المقهى المسطحة الكبيرة يتابع قناة الأغانى الشعبية التى لا تتوقف عن بث الصخب، والتى لاحظت أنه يعيدها مرة أخرى إن قام أحد الزبائن وقبض على الريموت كونترول وغير القناة إلى أخرى. حين اقترب منى مرة أخرى أمسكته من يده وصحت قائلا ليسمعنى: القهوة فين يامحمود؟! رد بغضب: بتزعق ليه ياعم؟! حاضر, هاجيبهالك أهوه. فابتسمت وانتشيت كثيرا فقد أدركت أنه يسمع، وربما أكون أنا الذى أتعجل طلبى مثل كل الزبائن المتعجلين دائما، ومضى وقت غير قليل ولم يأت محمود بالقهوة! قلت فى نفسى : لماذا لا يأتى صاحب المقهى بغيره؟ فغالبا سيفقد المقهى زبائنه بهذا الوضع! لكنى سرعان ما أنبت نفسى على قسوتى على محمود قائلا: محمود صبى يبدو فقيرا جدا وربما يعول أمه المريضة وإخوته بعد أن توفى أباه وأصبح هو العائل الوحيد لأسرته. وما جعلنى أوقن أن هذه الفرضية هى الأقرب إلى الصواب أن صاحب المقهى والزبائن أيضا يعاملونه برفق رغم غضبهم من تأخره الكثير فى إحضار طلباتهم، بل اعتاد كثير منهم على إحضار طلباته بنفسه من على المنضدة الرخامية الكبيرة داخل المقهى والتى يقف خلفها شخص آخر أكثر نشاطا وحيوية يجهز الطلبات, وحين أدركت ذلك فعلت مثلهم وقمت بإحضار قهوتى بنفسى. وحين بدأ الزبائن فى مغادرة المقهى ولم يتبق سواى وعدد قليل مازالوا يلوكون حكاياتهم وقفشاتهم وقهقهاتهم، بدأ محمود فى لم المقاعد البلاستيكية ورصها فوق بعضها فى مجموعات ووضعها صفوفاً متجاورة تفصل المقهى عن الساحة الخارجية الملحقة به. وحين لاحظه صاحب المقهى نهره قائلا: مستعجل ليه يا محمود لسه بدرى؟! رد محمود : ياعم أحمد الساعة عدت واحدة، الناس دى هتفضل قاعده لإمتى، أنا راجع القهوة تانى الصبح بدرى!. قال عم أحمد: طيب اكنس ومتقولش لحد قوم، سيب كل واحد براحته. وحين اقترب منى قال : قوم فى الركن التانى يا أستاذ عشان هاكنس. يكنس محمود مخلفات الزبائن من الساحة الخارجية وحين يطير الهواء بعضها يطيرها هو بغضب أكثر إلى أسفلت الطريق خارج المقهى لتدهسها السيارات المارقة. وحين يقترب محمود أكثر من الشاشة المسطحة الكبيرة يقبض على المقشة متكئا بذقنه على ظاهر يده،ويقف شاردا أمام قناة الأغانى الشعبية التى يطل منها شاب بملابس مزركشة غير متناسقة الألوان،يزعق بصوت حوشى على موسيقى أكثر ضجيجا،ومحمود يحدث نفسه بصوت مسموع: مش لو كنت أنا مكانك كنت بقيت أحسن منك؟!!