وزارة التضامن تقر حل جمعيتين في محافظة الغربية    تراجع أسعار النفط مع ارتفاع المخزونات الأمريكية    «المصرية للاتصالات» تعلن اكتمال مشروع الكابل البحري 2Africa    «المشاط»: 6 مليارات يورو استثمارات 1600 شركة ألمانية في مصر    خبير روسي: الجيش الأوكراني ينقل ما يصل إلى نصف أفراده من المنطقة الحدودية إلى كوبيانسك    30 ألف مشجع يساندون الأهلي أمام شبيبة القبائل في دوري أبطال أفريقيا    منال عوض تترأس الاجتماع ال23 لصندوق حماية البيئة وتستعرض موازنة 2026 وخطط دعم المشروعات البيئية    الحكومة: تسليم 265 كيلو ذهب بقيمة 1.65 مليار جنيه للبنك المركزي.. رسالة جديدة لدعم الاقتصاد الوطني    19 نوفمبر 2025.. أسعار الأسماك بسوق العبور للجملة اليوم    التضخم في بريطانيا يتراجع لأول مرة منذ 7 أشهر    تداول 97 ألف طن و854 شاحنة بضائع بموانئ البحر الأحمر    جامعة بنها ضمن أفضل 10 جامعات على مستوى مصر بتصنيف كيواس للتنمية المستدامة    زيلينسكي في تركيا.. محادثات تغيب عنها روسيا بهدف إنهاء حرب أوكرانيا    هجمات روسية تهز أوكرانيا.. ومقتل 9 وإصابة العشرات وأضرار بالبنية التحتية    الفريق أحمد خليفة يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته فى فعاليات معرض دبى الدولى للطيران 2025    حريق هائل يلتهم أكثر من 170 مبنى جنوب غرب اليابان وإجلاء 180 شخصا    رئيس القابضة لمصر للطيران في زيارة تفقدية لطائرة Boeing 777X    الفريق أحمد خليفة يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته فى معرض دبى الدولى للطيران    صلاح ينافس على جائزتين في جلوب سوكر 2025    كانوا واقفين على الرصيف.. وفاة تلميذة وإصابة 3 أخرين صدمتهم سيارة مسرعة بالفيوم    أخبار الطقس في الكويت.. أجواء معتدلة خلال النهار ورياح نشطة    صيانة عاجلة لقضبان السكة الحديد بشبرا الخيمة بعد تداول فيديوهات تُظهر تلفًا    الحبس 15 يوما لربة منزل على ذمة التحقيق فى قتلها زوجها بالإسكندرية    المايسترو هاني فرحات أول الداعمين لإحتفالية مصر مفتاح الحياة    6 مطالب برلمانية لحماية الآثار المصرية ومنع محاولات سرقتها    معرض «رمسيس وذهب الفراعنة».. فخر المصريين في طوكيو    مهرجان مراكش السينمائى يكشف عن أعضاء لجنة تحكيم الدورة ال 22    محافظ الدقهلية يتفقد أعمال تطوير مستشفى طلخا المركزي وإنشاء فرع جديد لعيادة التأمين الصحي    أفضل مشروبات طبيعية لرفع المناعة للأسرة، وصفات بسيطة تعزز الصحة طوال العام    وزير الري يؤكد استعداد مصر للتعاون مع فرنسا في تحلية المياه لأغراض الزراعة    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    بولندا تغلق مطارين وتضع أنظمة دفاعها الجوى فى حالة تأهب قصوى    الإسكندرية تترقب باقي نوة المكنسة بدءا من 22 نوفمبر.. والشبورة تغلق الطريق الصحراوي    مصرع 3 شباب فى حادث تصادم بالشرقية    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    بعد غد.. انطلاق تصويت المصريين بالخارج في المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    جيمس يشارك لأول مرة هذا الموسم ويقود ليكرز للفوز أمام جاز    اليوم.. أنظار إفريقيا تتجه إلى الرباط لمتابعة حفل جوائز "كاف 2025"    هنا الزاهد توجه رسالة دعم لصديقها الفنان تامر حسني    «اليعسوب» يعرض لأول مرة في الشرق الأوسط ضمن مهرجان القاهرة السينمائي.. اليوم    تنمية متكاملة للشباب    إطلاق أول برنامج دولي معتمد لتأهيل مسؤولي التسويق العقاري في مصر    الصحة: «ماربورج» ينتقل عبر خفافيش الفاكهة.. ومصر خالية تماما من الفيروس    صحة البحر الأحمر تنظم قافلة طبية مجانية شاملة بقرية النصر بسفاجا لمدة يومين    المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026 بعد صعود ثلاثي أمريكا الشمالية    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    بحضور ماسك ورونالدو، ترامب يقيم عشاء رسميا لولي العهد السعودي (فيديو)    زيورخ السويسري يكشف حقيقة المفاوضات مع محمد السيد    ما هي أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين الأطفال في مصر؟.. التفاصيل الكاملة عن الاضطرابات النفسية داخل مستشفيات الصحة النفسية    النائب العام يؤكد قدرة مؤسسات الدولة على تحويل الأصول الراكدة لقيمة اقتصادية فاعلة.. فيديو    أبرزهم أحمد مجدي ومريم الخشت.. نجوم الفن يتألقون في العرض العالمي لفيلم «بنات الباشا»    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    هل يجوز أداء العشاء قبل الفجر لمن ينام مبكرًا؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كائنات الحزن الليلية
نشر في صباح الخير يوم 26 - 02 - 2013


البنت جميلة

كالرجال حين تنكسر الروح على حافة العتمة.. تموت المقاهى، وكالعيال حين الصرخة الكاشفة.. تولد مرة أخرى على خارطة المدن.

وكلحظة انتهاء العلاقات العابرة فى زمن الخوف والفجيعة، تنتهى مقاهى الإسكندرية الآن على حافة الذاكرة المهاجرة. تلك المقاهى التى تظل مثل محطات القطارات المسافرة دوما، حيث ينتظر الغرباء العابرون آخر النهار، صافرة الرحلة العابرة، ثم يختبئون خلف النوافذ الزجاجية، أو المفتوحة على الريح، والحقول التى ترجع دائما للوراء، لا تلويحة وداع تفر منها الدموع، ولا كلمة عابرة تختصر المسافة، محطات ضائعة بين وقتين، تائهة بين عربتين، طالعة بين حزنين، مشروخة بين صافرتين.. هل يغسل ماء البحر دم العصافير التى كانت تغنى على حافة قلبى ؟

ومثل بدايات الحلم الطالع كحبة التوت.. تطلع مقاهى القاهرة، كبيوت الوسعاية القديمة،' مفتوحة على ضحكات الرجال، وتأوهات النسوة تحت وطأة الأجساد الصاعدة الهابطة، وصراخ العيال ساعة الظهيرة. وهم يجرون خلف الحناطير وعربات الرش.. مقاهى الوطن والمنفى.. العشق والهجر.. الفصول الأربعة، الخناقات الليلية، وتقبيل الرؤوس فى بدايات الصباح، وباعة الجرائد حين يحطون على الموائد كالنوارس المتعبة، المأوى.. حين تحدفك المدينة القاسية من شارع إلى شارع، ومن.. غربة إلى غربة، ولحظة الفرار حين يداهمك المخبرون فجأة آخر الليل، فترحل من عتمة إلى عتمة، ومن أزقة إلى أزقة، حتى تختبئ فى عربة التروللى العجوز، الذى انتهى من طقوس الغسل الليلى، وبدأ رحلته الأولى. مقاهى القاهرة..

غير مقاهى الدنيا كلها.. فحين تضيع فى زحمة النهار الذى لا يحفظ الملامح ولا الأسماء، وحين تنكسر روحك مثل زجاجة الخمر القديمة الفارغة، فوق مواقيت الليل الذى لا ينتهى، تجلس فوق مقاعدها الخشبية، كمحارب عجوز جاء يبحث عن عنوان قديم كتبه ذات مرة، فوق المفرش المتسخ، تشرب كوباً من القهوة السادة، تنتظر لحظة العناق والدهشة، حين تنط من الذاكرة المتعبة وجوه الرفاق فوق المقاعد المجاورة، يدخنون السجائر الرخيصة، ويشربون الشاى، يتحدثون عن اعتقالات سبتمبر الشهيرة. والموت الذى يسكن أسوار المدينة الحجرية، ويخطف العيال من الغرف البيضاء الضيقة، عن النهارات المشنوقة فوق باب زويلة وباب الفتوح، ثم ينتقلون إلى مقهى البرابرة وسط الميدان، حيث ترى ما تريد، تسمع آخر القصائد، وحكايات المدينة المختبأة خلف المشربيات القديمة، والكتل الحجرية العالية، وعندما يحط الصمت ويموء التعب، تقترض قروشا قليلة، لتركب آخر أتوبيس، حتى أطراف المدينة، حيث تستند البيوت الكالحة على بعضها، خشية السقوط، والمطاردة الليلية التى تظل تنبح فى مداخلها حتى بدايات الصباح، ويسكنها دائماً الفقراء والقادمون من القرى والبلاد البعيدة، ليختبئوا من عيون الوحش الواقف خلف أبواب المدينة، حتى لا تحولهم إلى تماثيل حجرية تصفر فيها الريح.

كان يفر من مقاهى الإسكندرية التى تشبه المخبرين آخر الليل، وتنهش روحه، وتطير القلب اليمامة، فى فضاء شتائى غامض بارد مطارد، فتنكسر الأجنحة، ويتناثر الريش فى أرض الحزن والوحشة والألم، فصار الآن.. يدمن مقاهى القاهرة، التى تمنحه الصحبة والدفء وبعض المعرفة، وحين يجلس فى مداخلها، ويتحسس المائدة الرخامية اللامعة، يرف فوق قلبه طائر الوداعة، وتحط بقايا الأيام الضائعة كالفراشة على حافة فنجان القهوة السادة، فيشرب آخر ما تبقى دفعة واحدة، ويغنى بصوت هامس

لو كان قلبى معى، لاخترت غيركم

ولا رضيت سواكم، فى الهوا بدلا

لكنه راغب فيمن يعذبه

وليس يقبل لا لوما ولا عزلا..
يمر على المقاهى آخر الليل.. دائما نفس المقاهى، كأنه يمارس طقسا يوميا مقدسا، ليسرق مفاتيح المدينة المطلسمة، ويفك شفرتها الجامحة، تلك المدينة التى تظل تغوى عشاقها، فيطاردونها حتى آخر العمر، لكنها.. لا تمنحهم أبدا جسدها.. ولا حتى عناق عابر من خلف سيوف الحرس، لا شىء.. غير وعد.. مجرد وعد لا يتحقق أبدا، فتظل رحلة المطاردة والاشتهاء، حتى لحظة الاحتراق، ويظل العشاق ضائعون على حافة الوجد واللهفة، وانتظار ما لا يأتى.

يدرك الآن.. وهو يرسم ملامح المقاهى التى تقارب ملامح البشر، فى فضاء طقسه اليومى، حتى ذلك المقهى الصغير، المختبئ فى قلب المقابر البعيدة، حيث يشربون الحشيش حتى بدايات الفجر، إن تلك المدينة محطته الأخيرة، حيث تنكسر أيقونة العمر فوق أسوارها الحجرية، ويسقط طائر النار الضائع ما بين السماء والأرض على حافة النهر، دون أن يبعث عن الرماد مرة أخرى، يظل الرماد.. مجرد رماد تطيره الريح فوق المقاهى والشوارع التى لا تحفظ الملامح والعناوين، والغرف الضيقة فوق أسطح العمارات، وعربات الترام والتروللى باص، التى تلفظ أنفاسها آخر الليل، فوق القضبان الحديدية القديمة، يدرك تلك النهاية، منذ أن ركب القطار ذات نهار، يتلاشى الآن من حدود الذاكرة، بلا حقيبة، ولا أوراق قديمة انطفأت فوق أسطرها الروح، أو أوراق مازالت تشتهى بداية الأبجدية، كما كان يدخلها من قبل، لا شىء..

غير الوحل الملتصق بنعل الحذاء، والوصل الذى يجف ويتشقق فوق القلب، وبقايا حكايات تقف على مشارف البكاء، أو مشارف الألم، كأنه ينزل ذات النهر مرتين، أو كأنه يقف بين موتين.. ويموت بين سطرين ضائعين.. ويضيع بين وقتين مهاجرين، وقت بنى عشه فوق قمة الصهريج الحديدى العالى واستراح، ووقت يتحنجل الآن كطائر اللعنة الكسيح، فى محطة مصر، ويمضى بساقه العرجاء من حلمية الزيتون، إلى خارطة أبوالسعود فى مصر القديمة، وبين السرايات حتى يتمدد فوق سرير خشبى ضيق، فى تلك الغرفة التى تقع بين غرفتين، فوق سطح إحدى العمارات الجديدة الواطئة، فى شارع صغير ليس به غير دكان بقالة وحيد، وينفلت خلسة من جسد شارع الهرم الطويل المزدحم.

يدرك الآن.. أن مدينة الرحلة الأخيرة، غير مدينة اللحظات المسروقة من عباءة الأيام، عندما كان يركب قطار الصحافة من سيدى جابر فى الحادية عشرة مساء، ويدخل المدينة فى بدايات النهار، الذى مازال يتثاءب، يحاول أن يختبئ بين الملامح، التى تلهث خلف عربات الترام، والأتوبيسات التى لا تتوقف فى المحطات، والوجوه التى تبحث عن بوابة الرحيل والبراح، يدخلها هارباً من مطاردة المخبرين فى شوارع الإسكندرية، ومحطة الرمل، وذلك المقهى الصغير فى غيط العنب، الذى كان يخبئ فيه الولد حسنى المنشورات، من وراء أبيه المشغول بعد الماركات وراء المكتب الخشبى الصغير، يدخل الآن المدينة التى تغسل وجهها فى النهر، فتتساقط المساحيق الليلية، بقعا من الألوان والدم، بعد أن عقد معها اتفاقاً سرياً، ألا تقتله فى لحظة مباغتة من الوراء، أو تسلمه للمخبرين الذين يفتشون دفاترها كل ليلة، مقابل ألا يلعنها فى قصائده، وفوق الموائد الرخامية فى مقاهى إيزافيتش والبرابرة، ألا يفتح قميصها الحريرى، تحت أعمدة الإنارة العالية، فيبدو صدرها الناشف كحبة الرمان عارياً، معلقاً على باب زويلة، منفرطاً فوق سور مجرى العيون، متدحرجاً حتى أقدام المماليك الغليظة فى منيل الروضة، ألا يرفع من فوق أسوارها طلاسمها الفاطمية، فيتشقق الجسد على حافة النهر، ويغطى دمها الشهرى، ملاءات الليل وأرصفة النهار، فتنكسر تحت وطأة الحزن والفضيحة.

يدرك الآن.. وهو جالس فوق تلك الدكة الخشبية القديمة، التى تتأرجح، وتصدر صوتا أشبه بصرير جنادب الليل الرخو، كلما حرك ساقيه المتعبتين، فوق الأرضية الترابية المبللة بالماء، وبقايا الفحم والمعسل، فى ذلك المقهى الصغير المدفون بين مقبرتين، وسط الجبانة الكبيرة، التى تقع على أطراف المدينة، وترتعش تحت وطأة العتمة والسكون الذى يجرحه نباح الكلاب بين الحين والآخر، وتختنق بالسعال والدخان ورائحة الحشيش، أن ذلك الوجه الذى طلع فجأة كزهرة رائقة على حافة الموت، من خلف الباب الحديدى للمقابر المقابلة، ثم أخذ يطفو فوق العتمة، والممرات الترابية الضيقة، ويرف على حواف الشواهد الحجرية، تحت الضوء الشاحب المرتعش، كأن أطياف الموتى تنهى رقصتها الأخيرة، استراح قليلاً فوق مئذنة الجامع القريب، ثم اختفى تحت ظلال الجبل، هو وجه البنت جميلة، التى اصطدمت به مثل قطار سريع، لا يعرف غير محطة وحيدة على حافة الدنيا، ذات مساء خريفى، يغتسل تحت أضواء الميدان الكبير، فيتساقط عالمه القديم فى لحظة خاطفة، كما تتساقط أزهار البانسيانا الحمراء، فوق رصيف شارع محب، فيصرخ من الألم، وتمسح الأقدام العابرة، دم العذارى ليلة الزفاف الدامى، تناثرت أيامه فوق قضبان العمر الصدأة، التى نسيها قطار الوقت الوحشى، وحين قبلته لأول مرة..

فى مقهى الشاى الهندى، لحظة استدارة الجرسون العجوز، طارت أحلامه التى مازال وحل الوسعاية، يغطى ساقيها الضامرتين، كالوشم الريفى، فوق الأرصفة، وتحت العربات المسرعة، لم يعد بعد تلك القبلة غناء الكروان حزينا على حافة المدى، بل صار يردد أغنية البهجة فى الملكوت، وحين طارت اليمامتان الصغيرتان، من فتحة القميص الحريرى الضيق، وحطت فى وداعة على وجهه، راحت مناقيرها البنية تخمش جلده بنعومة وشبق، وقفت فوق جسده آلاف الطيور البيضاء، أخذت تفك أكفانه القديمة الثقيلة، فبدا عارياً.. نقياً.. كلحظة الميلاد الأولى، انشقت السماء.. هبطت الملائكة من مساحة البرق، ورفت على كتفه..

غسلته بالنور مرة أخرى، بعد أن تعبت من ضياعه الطويل، فأخذت نبوءة جده، وطارت إلى آخر الدنيا، فظل واقفاً ما بين عمامة الولى القديم، التى وضعها جده الشيخ فوق رأسه، ذات يوم بعيد فى ساحة القرية، وهم ينشدون قصائد المديح النبوية، وبين عباءة الموت الكافر، التى لفتها حول روحه الأيام الضائعة بين وقتين على ساحل البحر، الذى هاجرت منه النوارس، والمراكب الراحلة.

يدرك الآن.. وهو يحاول أن يدارى دموعه عن العيون التى انطفأت مثل المصابيح الشاحبة القديمة، تحت وطأة الدخان الأزرق، والليل الطويل التائه، بين أحواش المقبرة، كشيخ عجوز أعمى، عن صاحب المقهى الذى لا يتوقف عن رص المعسل، وتحريك المصفاة الحديدية فى الهواء بقوة، فتتوهج الجمرات، وتهج من المصفاة كالفراشات المحترقة، ثم تنطفئ فى ذلك الفضاء الضيق، الذى يترنح ويصطدم بالجدران الحجرية، يدرك.. أن تلك الجملة التى قالها الولد جودة ذات مساء، وهو يضحك ضحكة تنكسر على بدايات السعال الحاد، كانت بداية الكفن.. أول بيت فى قصيدة الرثاء الطويلة، التى سيكتبها الحزن فوق بحيرة الدموع، وتنشدها الأيام فوق شاهد حجرى وحيد.. كان الولد جودة، قد رسم نصف وجهها الجميل، خلفه نصف نافذة مفتوحة على العراء، يقف على حافتها نصف طائر أسود صغير، سألته البنت جميلة عن تلك اللوحة النصفية، قال وهو يشرب آخر نفس فى سيجارة الحشيش.

- نصف حياة.. ونصف روح ضائعة فى الملكوت، وموت ينتظر لحظة الانكسار.
قالت البنت جميلة، وقد هاجر الحزن من آخر الدنيا، واستراح فى براح العينين السوداوين.

- لم تنكسر روحى فوق جدران الزنزانة الحجرية الضيقة، التى رسم العيال فوقها فضاء بديلاً، وغيمة حمام فوقها سماء أخرى، بل.. لعلها رفرفت قليلا على حافة الباب الحديدى، ثم طارت حتى آخر المدى، لكنها.. تنزف الآن يا صاحبى، فوق أسلاك العالم الشائكة، تحاول أن تختبئ من الموت، الذى يأتى دائمًا فى العتمة حتى لا نراه، كانت روحى لى وحدى.. فصارت غريبة عنى.. ثم.. سرقتها الدنيا، وطيرتها حمامة جريحة، فى فضاء الموت والمطاردة، صار النهار خوفى وضياعى، والليل انكسارى وموتى.

حاول أن يهش طائر الحزن الذى حط فوق المفرش الجلدى اللامع، وراح ينقر حواف المائدة، فقال وعلى شفتيه نصف ضحكة، ونصف ارتعاشة غضب.
- ما تخليش جودة ياخدك فى توهة الحشيش المضروب اللى بيشربه.

رفرف طائر الحزن فوق شفتيه فضاع الصوت، انكسر تحت ظل عينيها، كأن الحزن لا يريد إلا صوتها، وكأن الموت الذى يجلس فوق تلك المائدة البعيدة، لا يريد أن تهدأ تلك الروح، حتى تبنى عشها على صوته وحده، وترحل فى المدى، فراحت البنت جميلة تواصل قداسها الليلى، وتطفو على حافة الأفق كقوس قزح، تتداخل الألوان، حتى تكاد تصبح لونًا واحدًا يقطر دمًا.

- رغم رعب الأيام الأولى فى سجن القلعة، الذى مازالت تنط فيه أشباح المماليك المذبوحة، وصهيل الخيل الهارب الذى لا يتوقف، رغم ارتعاشة الروح تحت دبة جزم العساكر فى الممرات الضيقة، الدبة التى تهج تحت وطأتها الأيدى العصافير، من فوق القضبان الحديدية، همسات الأجساد المتعبة فى تلك العتمة التى لا تنتهى.. كانت البنات تغنى فى الليل، غناء يعبر حدود النواح، ويعلق أيقونة الحياة فوق الأبواب الحديدية، ويطير الأحلام بعيدًا عن الزنازين، ثم ينام الغناء فى علب السجائر، انتظارًا لذلك العسكرى الريفى الطيب الذى يهرب لهم الغناء والكلمات والسجائر، وعندما صارت الدبة عادة.. اكتشفت أن الزنزانة الضيقة، أكثر رحابة من ذلك العالم الذى لم يعد يغتسل فى النهر، أن الوجوه محددة واضحة، لا ترتدى ملامح جديدة كل صباح.. يبدو أن روحى مازالت محبوسة فى سجن القلعة، أو أن الوطن هاجر منا.. صمتت قليلا.. ثم بدأت تغنى بصوت هامس:

مرقوا الخلان ع الخيل

تركونى وراحوا

لا وقفوا ولا ارتاحوا

معهم حبيبى ما سمعنى

بعدوا.. وبعد البيت

وأنسانا يا ليل
مسحت دموعها.. ارتسمت على شفتيها نصف ابتسامة، ومضت دون أن تنظر للوراء.. ولم يرها أحد لعدة شهور.

يدرك الآن وهو يمضى وحيدًا بين الصحو والإغماء وسط المقبرة، أن البنت جميلة، التى تسكن الريح على مشارف صوتها، وتطلع فوق ضحكتها شقائق النعمان، كانت تريد أن تسرق سر الحياة والموت، من الآلهة الجالسة فوق قمة الجبل، فأطلقت خلفها خيول لعنتها الأبدية، ظلت الحياة تصل وراءها فى الشوارع والمقاهى ومداخل البيوت، وحتى غرفة النوم، لكن البنت عود الخيزران، لم تنكسر تحت سنابكها الوحشية، ولم تطيرها الريح الباردة، إلى الأرض الخراب، فطاردها الموت كل ليلة، وحين تعب من المطاردة، حط على حافة النافذة، بجوار المزهرية التى تطلع منها زهرة حمراء وحيدة، حتى استرد سره ذات مساء، وعاد فى زورقه الليلى، إلى قمة الجبل.

هل استرد الموت سره فعلاً دون أن تراه، حمل ما تبقى من الجسد الرقيق ومضى آخر الليل منتصرًا؟! أم أن البنت جميلة أيقونة الدنيا- كما يطلقون عليها هزمت الموت، الذى تدرك أنه لن يرحل من فوق النافذة دونها؟! فأخذت السر الذى سرقته من فوق قمة الجبل، وطارت إلى آخر المدى، حيث تحولت إلى نجمة لامعة، تضىء عتمة الحزن والألم، صارت روحها فراشة ملونة، ترف على صوت المغنى؟!

فى إحدى الصباحات.. وجدوا البنت جميلة نائمة فوق مقعدها أمام النافذة، على شفتيها نصف ابتسامة، وبجوارها.. زهرة حمراء وحيدة.
يكتبها: محمد الرفاعى
يرسمها: سامى أمين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.