مات يحيى الزينى فى صمت منذ أسابيع فصارت ذاكرة المدينة فى مهب الريح، كان حضور المعمارى وأستاذ الجامعة والمفكر يحيى الزينى يذكرنا دائما بأن الأصل فى العمارة هو الذوق وأن الأصل فى التدريس هو القدوة وأن الأصل فى المفكر هوالوعى بقيم التاريخ والرؤية المؤهلة للانطلاق نحو المستقبل. كانت آخر كلماته لى منذ ثلاث سنوات حين نشرت بملحق الجمعة تحقيقا بعنوان «الطريق الدائرى شاهد على الفوضى» قال لى لقد درت مثلك على الطريق الدائرى وشعرت أن هناك إصرارا على حصار وقتل ذاكرة المدينة فقد تفرغ الثوار من كافة التيارات السياسية الخارجة من رحم النظام الاستبدادى الأسبق فى بحث أساليب الوصول إلى كرسى السلطة ونسى الجميع أن وحش الدمامة يلتف حول البيوت والشوارع والحارات، ومالم ننتبه سيصبح القبح جزءا من ذاكرتنا المعمارية. وقال المعمارى الكبير إن معيار نجاح أى ثورة فى مدى قدرتها على إثارة الوعى والتنبيه بالخطر الذى يحاصر القيم التراثية للمدينة المصرية بصفة عامة وللعاصمة القاهرة بصفة خاصة. مطلوب من الأهرام أن تتبنى حملة لإيقاف فعاليات الجهل النشيط التى تعبث بهذه المعالم وتحرص على محوها باسم التطوير، وتكون المحصلة هى التشويش على ذاكرتنا الوطنية وما ترسخ فيها عبر قرون من ثقة بالنفس وقدرة على بناء حضارة تعلى قيم الجمال العمرانى والسلوكى والأخلاقى. وخطورة الحصار الذى يفرضه وحش الدمامة حول العاصمة الذى نوهنا إليه مرارا ان تتحول قاهرة الزمان فى نظرنا مثل زوج الأم سييء السمعة والسلوك، فالقاهرة كما قال جمال حمدان بحكم مركزها الجغرافى المتحكم ومركزيتها المسيطرة تختزل تاريخ مصر كلها إذ تحمل ذاكرتها العمرانية حضارة الفراعنة مطلة من جبانة منف فى هضبة الجيزة وإشراقة المسيحية فى مصر القديمة يغمرها ضحى الإسلام من فسطاط مصر المحروسة إلى القاهرة المعزية ، وخطورة وحش الدمامة الذى يطبق الخناق حول القاهرة والبناء بالطوب الأحمر الكالح الذى لا يفرق بين أثر النبى ونزلة السمان وكفر غطاطى وامبابة وحتى بهتيم وبشتيل وعزبة النخل والمرج أن فكرة سكان العاصمة عن مدينتهم تتحول من منظومة فريدة المثال إلى كتلة عشوائية يضطر أهلها للتكيف مع حالتها المتسلطة الفقيرة، فترتفع أبراج خرسانية عديمة الذوق تخنق الهواء والخيال، وتجهد ذاكرتنا المصرية فى استرجاع صور عمائر قاهرة الخديو اسماعيل التى تتعرض لهجمة شرسة من الإعلانات الضخمة الصارخة الألوان المتدنية الذوق فيصبح الإعلان هو العنصر الحاكم لمعمار الشارع والميدان! من كان يصدق أن تختفى دار الأوبرا التاريخية محترقة فتستبدل بها مبنى إداريا وجراجا للسيارات وتتحول رئة القاهرة الخضراء الممثلة فى حديقة الأزبكية إلى أرض فضاء ملك للحكومة! حينما قامت ثورة الثلاثين من يونيو كان يحيى الزينى شأن كل الأمناء على الذوق الرفيع فى هذا البلد متفائلا، لأنها كانت ثورة لإطلاق طاقات الإبداع فى كل المجالات وإذا ظهرت أنماط جديدة من الموسيقى والغناء مثلا فإن فنون العمارة سوف ترتقى الى الأفضل، لكن شيئا من ذلك لم يحدث فى مجال الذوق العام والذائقة الفنية. ومات يحيى الزينى دون أن تنقشع عن صدر القاهرة كل سحابات القبح وأكوام الدمامة، ومازالت الصورة تغيم وراء سحابات التشويه والتلوث البصرى وفجاجة ذوق المجاورين لهذه الآثار والمتعاملين معها حيث يجرى تزويق المآذن بأضواء النيون والفلوروسنت الصارخة كتعبير متخلف عن البهجة والاحتفال بالمناسبات والأعياد الوطنية والدينية، كما تجرى محاولات بكل إصرار وترصد على خنق القباب الأثرية الجليلة ببيوت عالية البناء وضيعة القيمة ، ويضيع جلال الطابع المعمارى لهذا الحى التاريخى فى طوفان السذاجة والفجاجة والتشويه على الذاكرة البصرية، ورغم رحيل عالمنا الكبير مغاضبا دون أن تتحقق كل أحلامه مازال أمامنا الفرصة لقراءة كتابه الذى اصدرته هيئة التنسيق الحضارى وشرفنى بإهدائه مكافأة لى على تحقيق «الطريق الدائرى» وحملنى مسؤلية قراءة آخر وصاياه: مطلوب حملة لإعادة الطابع الحى النقى المميز للقاهرة التاريخية الذى يخلد عبقرية المكان ويفوح بعبق الزمان. مطلوب أن تتحول المآذن فى مخيلتنا إلى شواهد رمزية وعلامات بصرية. مطلوب أن تتحول القباب إلى هالة مجسمة تكلل ما تحتها موحية بقداسة المكان. مطلوب أن تتحول البوابات والمداخل الصرحية فى القاهرة الفرعونية والمعزية والخديوية إلى دعوات دائمة لكل عابر سبيل أن يتمهل ويمعن النظر فيما تجسده من قيمة وجمال وما تثيره من إغراء وترغيب وترحيب بالدخول. وعلى الجانب الآخر يلفت عالمنا الكبير نظرنا إلى صورة النقيض الصارخ للعشوائيات البصرية فى شكل تنمية مشاريع لمناطق جديدة شرق وغرب القاهرة حيث انبثقت أحياء تحمل أسماء أجنبية لتنسجم مع عصر العولمة فى انتحال مبتذل لمسميات الآخرين فى شكل مبان وأسماء تعرض وحدات فاخرة أكثر من المطلوب على بعد خطوات من الأحياء العشوائية المكدسة لتجعل خطاب إعادة التوازن إلى البيئة العمرانية للمدينة المصرية حبرا على ورق! ثم يتساءل المعمارى العظيم عن صورة أخرى من صور التشوه فى الذاكرة المصرية قائلا: من المسئول عن استبدال اسم طلعت حرب باشا باسم سليمان باشا الفرنساوى؟ ولمصلحة من يوضع مؤسس الجيش المصرى الحديث فى مواجهة مع مؤسس الاقتصاد الوطنى المصرى، على الميدان المعروف وسط القاهرة وكأن أحدهما أفضل من الآخر؟