هذا كتاب بالغ القيمة والأهمية, صاحبه هو المفكر والمعماري الكبير المبدع يحيي الزيني, الاستاذ الجامعي ومقرر لجنة العمارة بالمجلس الأعلي للثقافة. يحمل الكتاب الذي صدر اخيرا عن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري عنوان المدينة بين التنسيق والتأصيل وهو في 358 صفحة من القطع الكبير يتضمن ستة ابواب ومقدمة لسمير غريب رئيس الجهاز. الأبواب هي: التراث المعماري ومعني التاريخ, البيئة المعمارية وجودة الحياة, في التنسيق الحضري والقيم الحضارية, الفن والعمارة وحدود المسئوليات, الحدائق التراثية والتوازن البيئي, البحث عن الجوهر الضائع.. الطابع وهو يتناول في كل باب مجموعة من المسائل الفرعية التي بلغت اربعا وعشرين مسألة شكلت متن الكتاب مثل: نحو الحفاظ علي ذاكرة المدينة, صاحبة المقام الرفيع في ميدان الكونكورد (يعني المسلة المصرية الشهيرة في باريس) جامع ومدرسة السلطان حسن, التنسيق الحضري (الحضاري) بين تخلف التنمية وتنمية التخلف, المدينة والفن والتنسيق الحضاري, نحو رفع الذوق العام في المدينة المصرية, الحديقة والكوبري والاسود الاربعة, حدائقنا التاريخية.. تراث عمراني يتآكل وغيرها. شاءت الظروف ان يقع الكتاب في يدي بعدما كنت كتبت مقالتين في هذا المكان تحت عنوان في وداع التاكسي القديم قبل ان يغيب ويأخذ معه احد اهم معالم العاصمة وسماتها المميزة, باعتبار ان الملامح العريقة لمدينة من المدن ليست امرا عابرا, وكيف ان تراثها المعماري وتفاصيلها التاريخية هو ميراثها الحضاري والروحي, لاننا لاننتمي ابدا للهواء الطلق ولكننا ننتمي الي هذه الشواهد الحية من حولنا, وكيف ان اجمل ما نمتلكه من عمارة نباهي بها لافضل لنا سوي الإساءة اليها. لكن ذلك كله كان مجرد كلام يسوقه مواطن محزون غير مختص, ثم جاء هذا الكتاب يحمل الكلام الجاد من المعماري العالم ليضع الامور في نصابها المستحق, حيث يحدثنا في الفصل الاول من الباب الاول والمعنون نحو الحفاظ علي ذاكرة المدينة وهو الفصل الذي سوف نعتمد علي اشارات عابرة فيه نتوقف عندها في هذا المقال. يقول الاستاذ: ان العلاقة تنشأ بين الانسان والمكان من واقع الاحتياج وطلب المنفعة في المقام الاول, وتتعمق الروابط بالمكان علي مر الزمان, فتتحول من علاقة تبادلية الي علاقة تلازمية حقيقية, ومن نفعية مادية الي عاطفية وجدانية, فالمكان هو ذلك النطاق المادي الذي اختاره الانسان للعيش فيه ولاستيفاء متطلباته المادية والروحية. وفي هذا السياق تحرص الجماعة علي الحفظ علي ذاكرة المكان حية نقية خالية من التشويش والتشويه, لانها صفحات من سجل المدينة ومرآة لحياة قاطنيها.. وهو يعرض لما اصاب شوارعنا المهمة من موجة التغيير وما اصابنا من تشوش بصري وفجاجة ذوق المجاورين للآثار. ثم يحدثنا عن هذه الموسوعة من الاسماء التي تزخر بها لافتات الشوارع والحواري والدروب في القاهرة, وكيف في الواقع صفحات من كتاب المدينة يجب عدم تبديلها او تبديدها ابدا.. فاذا تبلد الحس وفسد الذوق العام وعمت اللامبالاة في المجتمع فلا تتوقع ازدهارا لفن ولاتقديرا لقيم ولا طلبا لعمارة جميلة. فنحن نبني ونشكل البيت.. فيعود البيت ليشكلنا كأفراد ونحن نبني المدينة فتعود المدينة تشكلنا كمجتمع, ويتفاعل المجتمع في وعاء البيئة العمرانية فينتج حضارة او لاينتج وكما يقولون: لكل مجتمع العمارة التي يستحقها. هذه صفحات قليلة من ذلك السفر الرائع الذي تقتضيني الامانة القول بأنني لم انته من قراءته بعد.. لكن ما قرأته كان كافيا واكثر لسوق هذه التحية. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان