يعد كتاب «الأغانى» لأبى الفرج الأصفهانى، بإجماع المؤرخين والباحثين والمحققين، أهم كتاب فى تراثنا العربى، لأنه يسجل الحياة فى عصره وفيما قبله من عصور،بكل ماحفلت به من أخبار وأنباء ونوادر وآراء وأحاديث مسنودة إلى رواتها، ولو كانوا من أبسط الناس. ذلك أن هذا الكتاب لم يقتصر على ذكر الخلفاء وأولادهم وحاشيتهم وندمائهم من الشعراء والعلماء والفصحاء، والتعرف على طباعهم ووصلهم، وإنما يشمل أيضاً الطبقات الشعبية المختلفة، بما فيها أسرة الأصفهانى نفسه، وطرق تعامل هذه الفئات بعضها ببعض، خاصة فى المسائل المادية والبشرية. ومن تحقيق ماجاء فى الكتاب، نستطيع أن نستخلص منه كيف كانت العادات السائدة فى هذه الأزمان، وكيف كان حال المغنين والملحنين والجوارى والغلمان، وكيف كانت الحياة تمضى فى البادية وفى قصورا لحضر، حياة الأفراد والمجتمع، فى الجد والمرح، والموقف من الوجود الذى قد يكون محل اتفاق نابع من التقاليد مع اختلاف الأسباب، أو تتفق فيه المبادىء العامة، وتختلف الممارسات والتطبيق. وماأكثر الأسماء والوقائع والأيام التى يزخر بها هذا الكتاب، ولم ترد فى المؤلفات الأخرى، نطالعها فى «الأغانى» الذى ينطوى على مادة تاريخية وأدبية لا نجد مايماثلها فى أى كتاب عربى آخر، لشدة حرص الأصفهانى على ألا يدع مطلقا رواية رويت وتداولتها الألسنة، ولو من العامة الجهال، وليس فقط من أهل الخبرة والثقافة، كما لا يدع رواية قرأها فى الكتب للكتاب العاديين دون أن يذكرها فى كتابه، ولو كانت مصنوعة، مجافية للعقل والمنطق، طالما توافر لها عنصر المتعة، وتضمنت مغزى، أو لاحت فيها فكرة. ولم تكن فروق المعانى المتقاربة تشتبه عليه. وترجع هذه القدرة إلى أنه الى جانب الموهبة كتب كتابه فى مرحلة من مراحل ازدهار الكتابة التاريخية، وتعدد مدارس الشعر وضروب النثر، وعلى قمته الجاحظ أمير البيان العربى، والعناية بالترجمة عن عدة لغات من مهرة المترجمين، وتزايد الإقبال على القراءة والتعليم. ولم يكن الأصفهانى يعبأ بمقاييس النخبة المتزمتة التى تهاجمه بدعوى أنه لا يتشدد فى اختيار مايرويه من روايات، سواء ماسعى إلى معرفته، أو ترامت إليه. ألا تصدر الحكمة أحياناً من غير الحكماء ؟! ولأن مؤلف الكتاب خالط الطبقات الاجتماعية من أعلاها إلى أدناها، وكانت روحه المنشغلة بالدنيا متشبعة بروحها، أتيح له من الحقائق ومن تنوعها مامكنه من هذه الكتابة التى لا تعرف المبالغة. وهذا ليس بالشىء القليل ولا شك أن الأصفهانى كصاحب نظرات نقدية صائبة فى فن الكتابة، فهم الخلافة العباسية وسياستها، فى ضوء هواه مع الخلافة الأموية، على أنها مظهر براق يأتى من المسحة الدينية التى تضفى عليها، بسبب عدم انفصال الدين عن الدولة، مثلما فهم جيداً النفاق الاجتماعى لمسئولى الدولة ورجال السياسة، الذين يجمع بينهم فى الخفاء حياة اللهو والقصف، وفى العلن حياة الحشمة والتمسك بالأعراف، وأدرك أيضاً ماتفيض به حياة العامة من مآخذ ومن تطلعات عادلة وفق الدين والشريعة، التى تمثل خصوصية الثقافة العربية، فى غير تعارض مع الفن والجمال. ولهذا تمتع الأصفهانى وكتابه بتقدير أصحاب الرأى، الذين يعرفون ميله للرواية التى تقدم الخيال على العقل، والأحلام على الواقع، ولا تخلو من الخرافة أو الكذب، وذلك قبل أن تطبق شهرته الآفاق، ويتزايد تقدير القرون التالية له، فى المشرق والمغرب.وكتاب «الأغانى» من الكتب التى نجت مما كان يصيب كتب التراث من نهب أو تلف أو تحريف، كما حدث لمئات المؤلفات بالغزوات والخطوب والخلافات المذهبية والفتن، وتنكيل السلطة الحاكمة بالمعارضة، والعداء للعلم والمعرفة. وتعد طبعة دار الكتب المصرية فى 1948 أفضل طبعات الكتاب، لأنها روجعت من لجنة علمية مكونة من عشرة مراجعين من أكبر الأسماء فى الثقافة العربية. ولايزال الى اليوم من يجد نسخة من هذا الكتاب على سور الأزبكية أو دكاكين الكتب القديمة يقتنيها باعتبارها من كنوز التراث العربى. استغرق إعداد الكتاب من الأصفهانى نحو خمسين سنة من عمره الذى امتد الى سن السبعين فى القرن الرابع الهجرى، شاهد فيه الكثير من الأحداث الجسام التى تسقط فيه دول وتقوم دول. وعندما أهدى الكتاب إلى سيف الدولة بن حمدان أعطاه مقابله ألف دينار، بينما كان يساوى لدى باعة الكتب عشر آلاف دينار. ولولا أن والد أبى الفرج كان يكفل لابنه المعيشة التى يتقوت بها، لما تمكن من التفرغ لتأليف كتبه وأشعاره بدخله المحدود من الأجور التى يحصل عليها من الطلاب الذين يقرأون عليه أو يملى عليهم دروسه. ويبدو أن حياة الأصفهانى مضت بلا متاعب أو أحزان، تلهى المرء عن ذاته، وتشغله عن الأعمال التى يعكف عليها. ولثراء الكتاب بالفن والنقد، استعاض به الصاحب بن عباد، الوزير فى دولة بنى بويه ومؤلف التصانيف الجيدة، عن مكتبته الكاملة التى كان يحملها فى أسفاره على ثلاثين جملاً. وحتى يصبح الكتاب فى متناول كل من يرغب فى قراءة التراث من غير المتخصصين، الذين لا يقوون على مافيه من تطويل يصل الى واحد وعشرين جزءاً، قام ابن واصل الحموى فى القرن السابع الهجرى باختصار الكتاب بعنوان «تجريد الأغانى»، واضطلع طه حسين مع ابراهيم الأبيارى بتحقيقه فى منتصف القرن الماضى. ورغم الجهد الذى بذل فى اختصار هذه الموسوعة بيد واصل الحموى تيسيراً للأصل، فلم يكن طه حسين الذى كتب مقدمته راضياً عنه، لأنه يغير النص الذى كتبه المؤلف، أو على حد تعبير طه حسين لأنه ينحرف بذلك عن الطريق الذى رسمه المؤلف، إضافة الى طمس جهد المؤلف فى تأليفه، سواء فى مادته الأساسية أو استطراداته، وهو جهد كان طه حسين يرى أنه يكشف عن صفاته العقلية والنفسية، وفى الإبقاء عليه متعة لا تعوض، وقد حذر عدد من المؤلفين من مبدأ الانتخاب أو التجريد أو الإختصار، لأن كل حذف من النصوص، ولو كانت حشوا أو تكثيرا، تقطيع لأوصاله ككائن، وإخلال بوحدته العضوية. والتراث يجب ألا تقطع أوصاله، أو أن يفقد وحدته العضوية كما يجب ألا يتعرض للجهل به. ومع هذا فلا بد من اتخاذ هذا الإجراء إذا أردنا ألا نجهل التراث، ولا نسدل عليه ستار النسيان. وأبو الفرج الأصفهانى يوصف بالرواية قبل أى صفة أخرى، لأنه وعى فى ذاكرته خلال جولاته فى بغداد والكوفة وأنطاكية والبصرة ما لا يحصى من القصص والروايات الصادقة والمصنوعة، التى دونها فى كتابه، محدداً الأماكن التى تلقاها فيها. ولا يعرف بدقة تاريخ ميلاد ووفاة الأصفهانى. ولكن من الثابت أنه ولد فى اصفهان سنة 284، ونشأ وتوفى فى 357 أو 356 هجرية. وتجمع الآراء على أنه أصيب قبل وفاته بتخليط العقل، تاركاً عدداً من الكتب غير «الأغانى» يقترب عددها من العشرين، وثلاثة دواوين جمعها للشعراء أبى تمام والبحترى وأبى نواس.