* كان يتمتع بأسلوب خاص في إيراد الروايات وتنميقها * «الأغاني» أشهر مؤلفاته وأعده في خمسين عاماً * كانت له صلات قوية بملوك الأندلس من بني أمية، يؤلف لهم الكتب ويرسلها لهم فيصلونه بجوائز كبيرة هو أبو الفرج علي بن الحسين القرشي الأصفهاني، يرجع نسبه لبني أمية، من أكبر أدباء العرب، صاحب كتاب الأغاني، وجدّه مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وهو أصبهاني المولد، بغدادي المنشأ، كان من أعيان أدبائها، وأفراد مصنفيها، وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير، شعره كثير، ومحاسنه شهيرة. كان أبو الفرج الأصفهاني راوية عصره، يتمتع بأسلوب خاص في إيراد الروايات وتنميقها، ومسلكه في رواياته مسلك الرواة الحاذقين، وليس تدقيق المؤرخين الذين يمحصون الأخبار ليقفوا على الحقيقة، ويذكرون ما يعتقد أنه الحق. لذلك جاء كتاب «الأغاني» جامعاً لكل ما قيل من أخبار وقصص، يوردها الأصفهاني كما وصلته من مصادرها، حريصاً على ألا يفوته شيء مما يعرفه الناس، فيرويه على علاته وإن كان من المصنوعات والأكاذيب. ينتهي نسب أبي الفرج الأصفهاني إلى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية. ولد سنة 284ه الموافق 897م، ولا يُعرف على وجه اليقين موضع ولادته، فقالوا إنه أصفهاني المولد استناداً إلى لقبه الذي عرف به واشتهر، وقالوا إنه بغدادي المنشأ والمسكن، ولعل أجداده كانوا يعيشون في أصفهان بعد سقوط دولتهم، ثم نزح أحفادهم إلى بغداد وأقاموا بها. وكان جده محمد بن أحمد الأصفهاني من كبار رجالات سامراء وعلى صلة متينة بوزرائها وأدبائها وكتابها، وكان أبوه الحسين بن محمد يقطن بغداد، ويحرص على طلب العلم والثقافة الشائعة في عصره، وكذلك كان عمه الحسن بن محمد من كبار الكتاب في عصر المتوكل. وروى عنه أبوالفرج كثيراً في كتابه الأغاني، وهو الذي تولى تربيته وتثقيفه. أما نسب أبي الفرج من ناحية أمه فهو ينتسب إلى آل ثوابة المعروفين في عصرهم بالكتابة والأدب والشعر. وذكر ابن النديم عدداً منهم في كتابه «الفهرست». وفي هذا الجو المعبق بعطر العلم وأريج الثقافة نشأ أبوالفرج الأصفهاني وتعلم، ثم تطلعت همته إلى مصادر أخرى للمعرفة، فولى وجهه شطر الكوفة في فترة مبكرة من حياته، وأخذ الحديث والتاريخ واللغة عن شيوخها الكبار من أمثال: مطين بن أيوب، والحسين بن الطيب الشجاعي، ومحمد بن الحسين الكندي مؤدبه في الكوفة وغيرهم، ثم رجع إلى بغداد وبدأ حياة علمية جادة، وأظهر جلداً وشغفاً بالعلم، واتصل بأعداد هائلة من شيوخ بغداد وعلمائها الذين كانت تمتلئ بهم مساجدها، ويكفي أن يكون من شيوخه يحيى بن على المنجّم، المتوفى سنة 300ه الموافق 912م وكان أديباً ناقداً عالماً بالغناء والموسيقى، وأبوعبد الله اليزيدي المتوفي سنة 310ه الموافق 922م وكان إماماً في النحو والأدب، ومحمد بن جرير الطبري الإمام المؤرخ المفسر الفقيه المتوفي سنة 310ه الموافق 922م وعنه روي أبوالفرج الأصفهاني معظم أخبار العرب القديمة ومغازي الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأشعاراً لشعراء الدعوة الإسلامية. ولازم أيضاً عدداً من كبار أئمة اللغة مثل علي بن سليمان الأخفش، المتوفى سنة 315ه الموافق 927م وأبي بكر الأنباري المتوفي سنة 328ه الموافق 939م وابن دريد العالم اللغوي الفذ المتوفي سنة 321ه الموافق 933م وأبي بكر الصولي، المتوفي سنة 335ه الموافق 946م وصاحب كتابي «الأوراق»، و«أدب الكاتب». رسمت كتب المعاصرين له صورة ذات ألوان قاتمة وظلال شاحبة فهو لا يعتني بمظهره، يبدو دائماً متسخ الثياب، قذراً في شكله وفعله، بعيداً عن مظاهر السلوك الحميد والتصرف الأنيق الذي يتصف به دائماً من ينادم الملوك والأمراء. وأياً ما كان الرأي حول هذه الصفات ومدى مبالغتها في رسم هذه الصورة السيئة، فإن هناك إجماعاً من المؤرخين على سعة علمه، وكثرة محفوظه، وجودة شعره، وكثرة تأليفه، وأضافوا إلى ذلك أنه كانت له رحمة وألفة بصنوف الحيوان، يأنس بصحبتها، ويعالجها إذا أصابتها العلة، ويأسى لموتها. ألف أبو الفرج الأصفهاني أكثر من 30 كتاباً، لم تسلم كلها من عوادي الزمن، ووصل إلينا منها: «الإماء الشواعر»، و«مقاتل الطالبيين» وتناول فيه سيرة أكثر من 200 من قتلى الطالبيين وشهدائهم منذ زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الوقت الذي انتهى فيه من تأليفه سنة 313ه الموافق 925م، وكانت شخصية علي بن أبي طالب هي أهم شخصية تناولها بالترجمة، فأفرد لها صفحات كثيرة، ثم تتابعت شخصيات العلويين لتشمل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وغيرهما من آل البيت. وعلى الرغم من كثرة مؤلفات الأصفهاني غير أن أهم كتبه هو «الأغاني» الذي نال شهرة واسعة وصِيتاً ذائعاً لم ينله كتاب في الأدب العربي منذ أن ظهر للناس في القرن الرابع الهجري حتى يومنا هذا، ووصفه ابن خلدون بأنه «ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن...». ويذكر لنا أبو الفرج الباعث على تأليف كتابه في مقدمته، فيقول: «والذي بعثني على تأليفه أن رئيساً من رؤسائنا كلفني جمعه له، وعرفني أنه بلغه أن الكتاب المنسوب إلى إسحاق الموصلي في الغناء مدفوع أن يكون من تأليفه، وهو مع ذلك قليل الفائدة، وأنه شاك في صحته...» وموضوع الكتاب هو الغناء، ألفه ليكون بديلاً عن الكتاب المنسوب إلى إسحاق الموصلي، ولذلك صدَّر كتابه بذكر «المائة صوت المختارة للرشيد الذي أمر إبراهيم الموصلي، وإسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء باختيارها له من الغناء، ثم رفعت إلى الواثق بالله، فأمر إسحاق بن إبراهيم أن يختار له منها ما رأى أنه أفضل مما كان اختير متقدماً...». وكان أبو الفرج يبدأ بذكر الصوت الذي اختاره والشعر المتعلق به، ثم يستطرد إلى ذكر أشعار أخرى قيلت في المعنى نفسه، وتغنى بها، ثم يتناول المناسبة التي قيلت فيها هذه الأشعار، وقد تكون المناسبة اجتماعية أو سياسية فيبين ذلك، وهو في أثناء ذلك يتعرض لذكر الإنسان وأخبار القبائل، وقصص وأشعار وملح، فيقف القارئ على ألوان مختلفة من الحياة، وعادات متفرقة في بيئات مختلفة، وطرائق الحياة في البادية والقصور من لهو وتسلية فراغ. ولم يلتزم أبو الفرج في اختيار الأصوات التي ذكرها بالترتيب الزمني للشعراء والمغنين، وإنما رتبها حسب الأصوات المائة التي اختارها المغنون الثلاثة للرشيد، وقد حوى كتاب الأغاني تراجم لزهاء 300 شاعر وقرابة 60 من المغنين والمغنيات. ومعظم من ترجم لهم كانوا من شعراء الجاهلية والإسلام، ولم يلتزم في أخبارهم ترتيباً تاريخياً، وإنما ينثر ما انتهى إليه من أخبار الشاعر حينما اتفق. واتبع طريقة المحدّثين في إسناد كل خبر إلى رواته.