عين زرقاء ضخمة فى صحراء بلا معالم، تحدق بدون أن ترمش فى كل من يحلق فوقها. منحوتة فى حفرة عميقة وسط الرمال الصفراء، وكانت بمثابة علامة إرشادية لرواد الفضاء الذين انبهروا لرؤيتها من فوق بكل هذا الوضوح. ولقد كتبت وكالة ناسا على موقعها: «إن هذا التكوين الدائرى الرائع المكون من دوائر متحدة المركز قد شد انتباه رواد الرحلات الفضائية كأنهم عثروا على جوهرة ثمينة فى قلب صحارى معظمها منبسطة». رأوا الأرض وكأنها تنظر إليهم بعين واحدة، نحتت ببراعة وسط الرمال، بدت كعين ثور ضخمة «Bulls eye»، فالهالة الزرقاء تشبه «بؤبؤ العين»، والتكوينات الصخرية على الحافة تشبه الجفن. هذا التشكيل البديع الذى يسمونه بأسماء كثيرة، تكوين ال «ريشات» «Richat structure» أى «حفرة الريشات» أو«قلب الريشات» أو «عين الصحراء» ليست إلا كتلا عظيمة الأحجام من الصخور الزرقاء والبيضاء. «عين أفريقيا» تعتبر من أشهر المعالم الجيولوجية فى أفريقيا، بل وفى العالم. توجد بشمال صحراء موريتانيا، وهى جزء من الصحراء الكبري، بالقرب من مدينة «وادان» أو «الواديان»، وهى مدينة أثرية نشأت قبل800 عام، ومن أبرز معالمها قصر القلالى، والمسجد القديم, وكانت مركزا لعبور القوافل المحملة بالذهب والتمر. وبالتأكيد، لابد أن يكون هناك من القبائل أو من الرعاة، من استوقفه هذا التكوين الغريب منذ زمن بعيد، قبل أن يعلن عن اكتشافه رسميا بواسطة الباحث الفرنسى «تيودور مونو» فى ثلاثينيات القرن الماضى، وهو نفسه الذى أنشأ المعهد الفرنسى لأفريقيا السوداء عام 1938، منذ بدأ الإعلان عن وجود هذه الظاهرة الجيولوجية الفريدة، التى بدت كجزيرة مسحورة وسط الرمال، ولم تنقطع البعثات الجيولوجية عن التردد على المكان، لدراسة صخور هذه المنطقة، وللوقوف على حقيقة مكوناتها، وتاريخها الجيولوجي. باستخدام أجهزة القياس الحديثة، وقدروا قطر هذا التكوين بين أربعين وخمسين كيلومترا، وبين لنا الباحثون أنه عبارة عن مجموعة من الطبقات الصخرية المتباينة، مرتبة على هيئة حلقات دائرية حول المركز، بارتفاعات وأبعاد تكاد تكون متساوية بين الحلقة والأخري، فى تماثل وتناسق مدهشين. وما يزيد من براعة هذا التشكيل، هو الشكل الدائرى الذى يتخذه ككل. الشئ الطريف أن هناك من العلماء من ربط بين هذا الترتيب المتناسق للطبقات فى تكوين الريشات الجيولوجي، وبين التصور المشابه له، الذى وصف به الفيلسوف الإغريقى أفلاطون مدينة أتلانتس، حيث قال عنها إن المدينة كانت مكونة من مجموعة دوائر تدور حول مركز واحد، بشكل تبادلى، أرض، ومياه، أرض، ومياه. ثلاث دوائر مياه، ودائرتا أرض. وأنها غرقت بسبب فساد وسوء سلوك سكانها، نتيجة هزة أرضية مفاجئة، فى غضون ليلة واحدة. هناك من استسهل وأرجعها إلى سقوط الصخور من السماء لعدم وجود مثيلاتها فى الصحراء القاحلة، ومن شطح تفكيره أكثر ونسبها إلى كائنات فضائية، نزلت فى هذه المنطقة غير المأهولة والخالية من أى ملمح يميزها، وقاموا بهذا العمل التشكيلى لينبهوا سكان الأرض إلى وجود كائنات أكثر منهم ذكاء، وربما فنا! وهذا هو الحال دائما مع كل اكتشاف جديد، تطفو التكهنات والخرافات على السطح يثار الجدل، وتوضع على الموائد الافتراضات، والشىء الغريب أن الجدل لم يتوقف حتى هذه اللحظة. وكان من الطبيعى أن يكون من أوائل من بادروا بالتكهنات هم من رأوه وهم يدورون من فوقه، وهم رواد الفضاء الذين اعتبروا وجود هذا التكوين العجيب، وسط صحراء قاحلة، لا تتمتع بتكوينات جيولوجية مماثلة. ليس إلا نتاج ارتطام نيزك تهاوى من الفضاء، وبقوة اصطدامه بتلك البقعة من الأرض، تكونت الحفرة. ولكن أثبتت الدراسات خطأ هذا التصور، فمن خلال العينات التى قاموا بجمعها، لم يعثروا على أى دلائل تشير إلى تبدلات جوهرية، أو تشوهات ملحوظة فى طبيعة الصخور من حول التكوين كنتيجة لهذا الارتطام المزعوم. وبالمثل دحضت نظرية الثورة البركانية، وهى إحدى تلك الافتراضات، فلا يوجد أى ملمح مميز لحدوث بركان، مثل أن يكون هناك فوهات بركانية crater، كما أن معظم الصخور التى تشكلت منها عين الصحراء هى صخور رسوبية، ومتحولة بالإضافة إلى بعض الصخور النارية. ومن الباحثين من رجح أن يكون هذا التصميم العبقري، قد لعبت الصدف دورا كبيرا فيه، كنتيجة لتآكل طبقات الأرض وعوامل التعرية، والعمليات التكتونية لتشكيل الأرض بصخورها، عبر حقب جيولوجية طويلة. ومن الباحثين الذين ألقوا الكثير من الضوء على ما حدث فى هذه البقعة من الأرض، الباحث الكندى «Guillaume Matton» «جويلايوم ماتون» من جامعة كيبك الكندية، حيث قدم دراسة بحثية للدكتوراه عن هذا التكوين الصخرى، بعد أن جمع عينات عديدة من الصخور، وأجرى عليها الفحوصات المعملية. رجع بنا إلى ما قبل مائة مليون عام، فى زمن كانت كل القارات فيه عبارة عن قارة واحدة عملاقة، انفصلت بعد ذلك إلى مواقعها الحالية. يقول فى بحثه إنه أثناء انفصال غرب أفريقيا عن جنوبأمريكا «لتطابق واضح بين القارتين على جانبى المحيط الأطلسى»، انبثق الصهير «الماجما» «magma» من باطن الأرض، خلال المناطق الضعيفة فى القشرة الأرضية، ومن ضمنها هذه المنطقة فى صحراء موريتانيا. دفع الصهير بقوة تدفقه، بالطبقات الصخرية من فوقه، إلى أعلي، لتنثنى الطبقات وتصير على هيئة قبة جيولوجية. حدث هذا الانثناء بشكل متماثل فى كل الاتجاهات، بحيث أصبحت أقدم الطبقات مع شدة الانثناء، فى مركز القبة. وبتعرض القبة البارزة لعوامل النحت والتعرية، وعلى مدار أحقاب جيولوجية طويلة، تآكلت القبة الأصلية، وبالتدريج بدأت تتشكل الطبقات، حتى استقرت على شكلها الحالي، حيث نجد الطبقات فى المستوى الأعلى، هى المكونة من الصخور الأكثر مقاومة لعمليات النحت والتجوية، وهى فى غالبيتها من الصخور النارية والمتحولة، بينما الطبقات الأقل منها فى المستوى هى المكونة من الصخور الأكثر تأثرا بالعوامل الجوية، وأقل مقاومة لها، وهى من الصخور الرسوبية. ولنقرب صورة هذا الترتيب فى تداخل الطبقات، نذكر عرائس «البابوشكا الروسية»، العروسة الكبيرة بداخلها الأصغر فالأصغر فالأصغر. الشئ المدهش أنه من خلال صور التقطها قمر صناعى يابانى فى 23 نوفمبر 2010 باستخدام تقنية حديثة فى التصوير، بدت الصور بتفاصيلها عن قرب، مختلفة عن المنظر العام من عن بعد. تظهر الصور مساحات كبيرة من الكثبان الرملية على الحواف، وبتحركنا خلال الطبقات الصخرية ونحو المركز، يشاهد شجيرات متناثرة، وتكوينات تشبه البحيرات الجافة والأنهار. الألوان فى الصور لها دلالتها، كل لون يرمز إلى تكوين بعينه، فاللون البنى يرمز إلى الطبقة الرئيسية من الصخور، والأصفر والأبيض إلى الرسوبات الرملية والجيرية، قنوات الصرف باللون الأخضر، أما الرسوبيات الملحية وتلك الناتجة عن البخر فتبدو مزرقة. من الموريتانيين من يعتقد أن هذه المنطقة بتكوينها الصخرى الملون، تكتنفها كنوز طبيعية، وثروات لا حد لها، الماس، والمعادن النفيسة. ويقولون عن النباتات التى تنمو فى هذه المنطقة بإنها فريدة من نوعها، وفائدتها العلاجية لا شك فيها، بل يشيعون عن هذه النباتات بأن لها القدرة على علاج الأمراض المستعصية، حتى تلك التى فشل الطب فى علاجها. وهناك من القرويين من يعتقد بتأثير المكان على تحسين أحوالهم المعيشية، وتحسين ثرواتهم الحيوانية. كما أنهم لا يبخلون بإسداء النصيحة لكل من يريد أن يجرب حظه، ما عليه إلا أن يذهب إلى هناك، يحمل زادا قليلا من أى شيء، فإذا ما صبر، وانتظر، وثابر، ستتضخم ثروته، سواء كان ما جاء به ماعز، أو جمل أو حتى نبتة صغيرة. وفى السنوات الأخيرة قررت الحكومة الموريتانية تحويل المكان إلى محمية سياحية، لاعتباره من أهم المعالم السياحية فى البلاد. ورغم أن رؤية صخور عين الصحراء عن قرب، لا تحقق المأمول منها، برؤية العين بالتجسيد نفسه الذى تظهر به من الفضاء، غير أن بعض السياح، ما زالوا يركبون الصعاب، ويذهبون لزيارة المكان، وسط الرمال، فى صحارى منبسطة، مترامية، يقتصر وجود المرتفعات فيها على سلسلتين جبليتين، فى الوسط، وفى الشمال، ولا يعكر صفو المكان، سوى النشاط الإرهابى فى المناطق القريبة منه.