غششت فى حياتى مرتين وكنت فى الصف الأول الثانوي، مرة تافهة مرت بسلام ولم أتوقف عندها، ونقلت فيها نظرية فى الهندسة فشلت فى حفظها، على مسطرة خشبية، فى امتحان الفصل الدراسى الأول، ومرة مازلت أذكرها بدقائقها متألما من ثقلها على صدرى كما لو أنها حدثت بالأمس القريب، كابوس لازمنى فترة طويلة، لم أعاوده قط، لأننى لم أنساه. كنت فى مدرسة شبرا الثانوية بشارع طوسون، وكانت قصرا من أملاك الأمير عمر طوسون، حفيد محمد على باشا، صحيح أن الحكومة غيرت اسم الشارع، ونسبته لشيخ صوفى قديم، يجهل أغلب سكان شبرا وجوده أصلا، فهجروه وظلوا مع «طوسون». كانت حال المدرسة فى أول العام لا يسر عدوا ولا حبيبا، تزويغ وزعيق وطولة لسان ونط من فوق السور بعد الحصة الثانية، لا يوجد شيء منضبط نسبيا إلا عزبة قليني، وعزبة قلينى هى فصول الصف الثانى المتناثرة فى سور المدرسة الشرقى من الداخل، وكانت فى الأصل أسطبل خَيل الأمير طوسون. وكان الاستاذ قلينى مدرس أول الكيمياء يشرف على هذه الفصول، فاكتسبت اسمه.. كان قلينى ممتلئا ذا كرش خفيف، متوسط الطول ، عريض المنكبين، أشبه بمصارع سومو بعد الاعتزال، وحاول قدر استطاعته أن يسير بعزبته عكس تيار الفوضي. ثم جاء الأستاذ عبد العزيز صقر ناظرا منقولا إلينا من شبين الكوم، فتحولت المدرسة إلى ثكنة عسكرية تمشى كساعة سويسرية فائقة الجودة. بعد نهاية الفصل الدراسى الأول أعلنت إدارة المدرسة فى طابور الصباح عن مسابقة فى اللغة العربية، كتابة موضع إنشاء حر، وعلقت شروط مسابقة على باب المكتبة.. لم أهتم.. وأصلا لم يلفت انتباهى . وذات يوم وكنت عائدا لتوى من المدرسة، و»يا دوب» خطفت قطعة خبز بجبنة رومى دون أن اخلع ملابسي، نادنى صديقى سيد من حوش بيتنا على غير عادته. سيد فى نفس عمرى وسنتى الدراسية..ويسكن على الناصية فى بيت ملك من دورين مغلق على أسرته من بابه، لا يزورن أحدا لا يزورهم أحد، الأب والأم وخمسة صبيان، سيد كان ترتيبه الثالث بينهم، يستحيل أن تسمع لهم حسا، ولم نضبط واحدا من أخوته يمشى فى الشارع يبحلق فى المارة أو الشبابيك أو يلعب معنا الكرة، كلهم يتحدثون مبتسمين بصوت خفيض، نلتقطه بصعوبة، وينظرون إلى الأرض دوما لو بنت من بنات الشارع تكلمهم بالمصادفة فى أمر ما. سيد كان أكثر أخوته تحررا، كان يقف معنا أحيانا على الناصية، هو محمد صبرى وأنا، نتكلم فى قصة قرأناها، مسألة صعبة فى الجبر أو الهندسة، إعراب جملة معقربة فى قصيدة لشاعر جاهلي، تحويل عبارة إنجليزية من الكلام المباشر إلى الكلام غير المباشر..وأحيانا نعرض على بَعضُنَا البعض الخواطر والحكايات التى نكتبها فى كشاكيل خاصة، وكانت بعض مواهبنا فى الكتابة نثرا وشعرا قد بدأت تتفتح.. ثم يمضى سيد عائدا إلى بيته بعد صلاة العشاء، ويستحيل أن يمكث معنا بعدها. سيد متفوق جدا، يخصص كل وقته للمذاكرة، خمس ساعات يوميا على الأقل، عنده قدرة فائقة على الحفظ، حين كانت تفلت منا كلمة فى حديث شريف أو قصيدة من كتاب المدرسة أو وقائع أحداث قديمة فى كتاب التاريخ أو معلومة جغرافية يصححها لنا بسهولة مفرطة، وحصل فى الابتدائية على أكثر من تسعين فى المئة، وكررها فى الشهادة الإعدادية، أيام ما كان التعليم تعليما جادا، والمجاميع الكبيرة نادرة ندرة الهواء المنعش فى صيف أغسطس، والتحق بمدرسة التوفيقية الثانوية، التى تقبل أوائل الإعدادية فقط من كل مدارس شبرا. خرجت جريا إليه فقد كنت أسكن فى الدور الأول صائحا: ماذا بك يا «ابو السيد»؟ قال: مدرستكم عاملة مسابقة فى «التعبير»؟! سألته: وماذا يعنى هذا؟ سألني: هل نويت الاشتراك فيها؟ قلت: لست مهتما. قال: وما المانع؟ أجبته: لا أريد.. فقال: عندى فكرة.. نشترك نحن الاثنين. قلت: من فضلك يا سيد اطلع من نافوخي.. بلا مسابقة بلا دياولو. قال: عندى حل.. اكتب أنا موضوعا وتشترك به، ولو فزنا نقسم الجائرة بيننا. رفضت فى الأول.. ثم اقنعني. فى الصباح كان سيد على باب بيتنا، فى يده ملف أصفر نظيف، داخله موضوع تعبير عن « الادخار»، مازلت أذكر بعض جمله « القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود فى خضم الحياة المتقلبة»، والإسراف آفة نكافحها بالادخار..والقرش على القرش كالبنيان يحمى الإنسان من عواصف الزمن».. وهكذا. أخذت الملف المكتوب عليه اسمي، وسلمته فى مكتبة المدرسة..وبعدها نسيت الموضوع برمته. مر أربعة أسابيع، ربما خمسة، وجدت كشفا معلقا فى المكتبة بأن موضوع الادخار فاز بالمركز التاسع، من بين مئة وثلاثين متسابقا. ونادنى الأستاذ فضل أمين المكتب وسلمنى جائزة عبارة عن مجموعة كتب: أساطين العلم الحديث للكاتب اللبنانى فؤاد صروف، وساعات بين الكتب لعباس محمود العقاد، و»قصة مدينتين» لشارلز ديكنز بإنجليزية مبسطة، و»تسعة وثلاثين خطوة « للكاتب الأسكتلندى جون بوتشان. أخذت الكتب، زاغت عينى عليها، وطمعت فيها..ورحت أفكر كيف احتفظ بها دون أن أقتسمها مع سيد، وكان كلما سألنى عن نتيجة المسابقة، أجيب فى صوت مفضوح: لم تظهر بعد. فينظر إلى بعيون كلها شك، ويطأطيء رأسه ويغادرنى وفى فمه ماء.. وذات يوم كنت عائدا لتوى من المدرسة، نادنى سيد بصوت صارخ غاضب، خرجت إليه، فقال: نتيجة المسابقة معلنة من أسابيع.. والموضوع فاز بالجائزة التاسعة.. أين هي؟ قلت له: مجموعة كتب عليها اسم مدرستى ولا يصح أن أعطيها لك. قال: يعنى تأخذها كلها على الجاهز. ثم هددني: لو ما أخذت حقى سوف اذهب إلى مدرستك وافضحك ومعى نسخة طبق الأصل من الموضوع. شعرت بخجل وجللنى عار وخزى كبيران.. تركته ودخلت إلى حجرتى أخرجت الكتب الأربعة وقدمتها إليه، نزعها من يدى بقوة، وأدار لى ظهره مبتعدا. لم أنم ليلتها ولا بضع ليال تالية، يأكلنى الهوان، وتمنيت الموت أو الذوبان فى الهواء، كيف فعلت بنفسى هذه الجريمة؟ وسألت الله: لم لم يخلقنى نبته أو شجرة أو حشرة؟ بعد أسبوعين أو ثلاثة.. ذهبت إلى الناصية ووقفت تحت بالكونة بيت سيد وناديت عليه وكنا قبل المغرب، نزل، اعتذرت له، وعادت علاقتنا جيدة.. وأضمرت فى نفسى شيئا مهما..عشت عليه.. تخرج سيد من كلية الزراعة، وعمل مهندسا زراعيا فى شركة قها، ثم هاجر إلى الخليج سنوات طويلة جدا لم اره فيها، ولم اعرف عنه شيئا.وفجأة سمعت صوته عبر الهاتف، وتقابلنا، سلامات وأشواق ولهفة حقيقية وذكريات طفولة وصبى وشباب وأحلام ، عرفت أنه تزوج وأنجب أربعة أولاد، ثم اخرج من حقيبة صغيرة بضع أوراق وقال لي: أقرأها لو أعجبتك ربما تجد فرصة للنشر. قلبت الأوراق وجدت فيها عبارات شبيهة بالتى كانت فى مسابقة الإنشاء حين كنا طلابا فى الصف الأول الثانوي.