وافق الخميس الماضى 17 مارس الذكرى الرابعة لرحيل البابا شنودة الثالث (نظير جيد روفائيل)، البابا السابق للإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية. وفى هذه المناسبة، تفرد «البوابة» المساحة التالية لننشر جوانب من سيرة حياة (نظير جيد)، كما رواها على لسانه، أثناء تسجيله للفيلم الوثائقى (همسة حب) الذي قام بإعداده فرانسوا فهمى وكريم كمال وإشراف القس يوحنا نصيف شرقاوى كاهن الكنيسة المرقسية بالإسكندرية. إلى كلمات البابا الراحل خلقت يتيما أولًا كنت طفلًا وحيدًا ماتت أمه دون أن يرضع منها، وعاش فترة من طفولته المبكرة بلا صداقة أو زمالة ولا لعب مثل باقى الأطفال. السنة الأولى من حياتى الدراسية اللى هيه روضة الأطفال كانت سنة ضائعة.. لم آخذ في تلك السنة أي شيء من العلم، إلى أن جاء أخى الأكبر وكان موظفا في دمنهور فأخذنى معه إلى هناك وعشت معه وحدنا، أخذت فترة الروضة في سنة واحدة، وانتقلت إلى الابتدائية، وأتذكر في ذلك الوقت أننى كنت أقرأ الجرائد وكنت أتصل بأشخاص أكبر منى في العمر، أخى الأكبر وأصدقائه، فكان عقلى ينمو بدرجة أكبر من سنى، والسنة الثانية والثالثة قضيتها في الإسكندرية والرابعة رجعنا إلى أسيوط وأيضا كانت سنة رائعة انشغلت أنا وأخى شوقى جيد بالكنيسة انشغالا كاملا بالقداسات الكيرلسى التي كان يصليها نيافة الأنبا مكاريوس أسقف أسيوط الذي صار فيما بعد البابا مكاريوس الثالث مع عيظات من الارشيدياكون إسكندر وكان أشهر واعظ في زمانه كله، في هذه السنة لا أنا قدمت على الشهادة الابتدائية ولا أخى شوقى قدم على شهادة الكفاءة وكانت أيضا سنة ضائعة أخذنا أخونا الأكبر بعدها إلى بنها وكان قد انتقل إلى بنها ودخلت في مدرسة الأمريكان ومدرسة الأمريكان مدرسة مسيحية كان لها طابع ديني وكانت من المدارس الأهلية غير الحكومية أخذت منها الشهادة الابتدائية وأتذكر أننى في تلك السنة حفظت مزمور السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه كمسابقة في المدرسة كوفئت عليها بإنجيل ذهبى صارت له قصة كبيرة في تدرجه من يد إلى أخرى ليس مجالها الآن. التعليم الإلزامي في فترة التعليم الابتدائى وفترة الطفولة المبكرة أذكر بضعة أمور: الأمر الأول زيارتى لدير درنكة في أسيوط وأنا تقريبا في الخامسة من عمرى وكانت عائلات بالمئات والآلاف تذهب هناك لتأخذ بركة السيدة العذراء. نقطة أخرى أننى وأنا في المرحلة الابتدائية كنت قد حفظت تقريبا كل التراتيل الموجودة في الكنيسة. ثالثا كنت أقرأ كتبا بلا حصر، كل ما يقع تحت أيدى من كتب، كتب في علم الاجتماع في علم الطب في القصص في الأدب يعنى مجموعة كبيرة جدا من الأفكار والمعلومات التي ازدحم بها فكرى وكانت هي الوسيلة الوحيدة التي أقضى بها وقتى إذ لم يكن لى رفقاء ألعب معهم، كانت مرحلة مفيدة من ناحية المعرفة من ناحية القراءة ومن ناحية النشاط العقلى. التفوق في الثانوية نقطة أخرى بعد ذلك وهى أننى حينما انتقلت إلى التعليم الثانوى كنت من الناحية الفكرية والعقلية أقوى من زملائى جميعا وهذا ساعدنى في التفوق، فكنت تقريبا الأول باستمرار في التعليم الثانوي وكنت قويا جدا في الرياضيات والعلوم، ودخلت توجيهى قسم علمى ثم وجدت أنها لا تتناسب مع هدفى في الحياة، فبعد نصف السنة حولت توجيهى إلى أدبى، هنا بقى في المرحلة الثانوية تعلمت الشعر، كنت في الأول أكتب شعرا لا أستطيع أن أجرؤ أن أسميه شعرا لأنى لم أكن أعرف أوزانه في ذلك الحين إلى أن عرفت ذلك في سنة 1939 في إجازة سنة ثالثة ثانوى عن طريق كتاب اسمه «أهدى سبيل إلى علمى الخليل» فدرست قواعد الشعر ودرست علمى الخليل العريض والقافية ودرست البحور والأوزان، ومن أول يوم قرأت فيه استطعت أن أكتب بيتا من الشعر موزونا تماما، كنت أذهب إلى دار الكتب من الصباح وأرجع الظهر وأذهب إليها بعد الظهر وأرجع في المساء لأنه لم يكن معى كتاب إلا الكتاب الذي أستعيره من دار الكتب والتي كانت في باب الخلق في ذلك الحين. من الثانوية إلى كلية الآداب كنت في الكلية أمثل النشاط الدراسى فكانوا يجتمعون حولى من حاجة أي شيء يحتاجونه في الدراسة وكنت أمثل أيضا النشاط الاجتماعى فكانت الحفلات التي نقوم بها أو الرحلات هي التي يقبل عليها كل الطلاب يشعرون بأنها ستكون من ناحية البرنامج ومن ناحية المصروفات والترتيب كلها تمام وكنت أيضا في الكلية أمثل الشعر والزجل والفكاهة. في السنة قبل الأخيرة لنا في الكلية ونحن نودع طلاب السنة النهائية طلبوا منى أن أجهز لهم جزءًا من الشعر الفكاهى في توديع الطلبة فقلت لهم في ذلك يا مَنْ ستتركنا كَم بدى أهديكا طبلة وكمنجة وزمارة ومزيكا حتى تُزَمِّرَ في لهوٍ وفى طربٍ وترقصُ الجو فوقيكَ وتحتيكا فاليوم تخرج من لومانِنا فرحًا ونحن نُترَك للتأبيد عاديكا إنى عَجِبتَ لِقسمٍ لا نصيب له إحتت لا خيرَ لى فيه ولا ليكا وقد بصرت لباب النحسِ مُنْفَتِحًا بضلفتيهِ وباب الحظ مسكوكا إلى أن قلت فيها: كم بدّى مبخرةٌ حتى أُبَخِّرَكَ من عين هيئة تدريس تُعاديكا من عين نصحى وعوّاد ومن بدوي ومن خفاجة ومن قومٍ تحدوكا جماعةٌ يهلك التلميذُ بينهمُ مهما اشتغلتَ لهم شغل البلوتيكا كان عندنا في اللاتينى قواعد صعبة زى أوت زى أف بالإنجليزى تقول أف زائد برزينت يساوى فيوتشر قاعدة أوت كده وقاعدة زيرون، زيرون تلقيه في كل جملة زيرون فقلت طبعا للطالب المتخرج قل هل برمت من أوت مع قواعدها وما وجدت بها أشياء ترضيكا أم هل سئمت من الزيرون مقتحما يقول في كل سطر يا فيك لا أخفيك كان كل حاجة فيها زيرون، الطلبة كانوا يبقوا مبسوطين وحبايبى ونقعد مع بعض ومنبطلش ضحك أبدا، ما ابتدناش نبطل ضحك إلا لما دخلنا في الحياة الرسمية واتخرجنا بقينا جد كده لكن حياتنا في الدراسة كانت حياة كلها فرح وكلها مرح. الأول في كلية الضباط الاحتياط في السنة الثالثة في الكلية بدأ الشعر عندى يتخذ مجالا دينيا أتذكر أن قصيدة «هو ذا الثوب خذيه أن قلبى ليس فيه» كانت في السنة التالتة وأنا في كلية الآداب، الشعر الدينى بدأ يزداد عندى وتركت باقى أنواع الشعر والفكاهة والحاجات دى، وبدأ اتجاهى في الرهبنة. في سنة رابعة في كلية الآداب اللى هيه سنة 46/47 حدث أمران، الأمر الأول أننى التحقت بالكلية الأكليريكية القسم المسائى وأنا طالب في كلية الآداب والأمر الثانى أننى بدأت أدرس في مدرسة إنجليزية في سراى القبة جدول بياخد الوقت كله في سنة 46/47 كنت في تلك السنة أدرس في فروع مدارس الأحد وأدرس في مدرسة إنجليزية وكنت أدرس في مدرسة ابتدائية وكنت طالبا في الكلية الأكليريكية وكنت طالبا في كلية الآداب وتخرجت سنة 47 وفى نفس الوقت تخرجت من كلية الضباط الاحتياط وكنت أول دفعتى، فترة الجيش علمتنا أشياء كثيرة، منها النظام والجدية في الحياة وخدمة الإنسان لنفسه إلى ما فيها من فوائد صحية أيضا يتميز بها كل ضباط الجيش، وكنت جادا جدا في عسكريتى وكنت محبوبا من زملائى. أيضا كنت أدرس في مدرسة ابتدائية لغة إنجليزية وكنت أدرس في مدارس الأحد وكنت محررا في مجلة مدارس الأحد وأول عدد صدر منها في إبريل 1947 كتبت فيه قصيدة هي، في الحقيقة لم أكتبها وإنما ألقيتها في مؤتمر عن الأحوال الشخصية قصيدة كم قسى الظلم عليك كم سعى الظلم عليك، بالمناسبة دى أقول لكم على حاجة غريبة في الشعر يمكن مكنتش قلتها قبل كده خالص، كنت ساعتها في سنة رابعة ثانوى، اللى هيه زى الثقافة، وأحد زملائنا توفى واختارونى نيابة عن الطلبة أن أقول كلمة في الجنازة أو قصيدة، وأنا كنت متأثرا، وقلت شعرا مؤثرا، أول بيت والستات بقوا يدمعوا، وتانى بيت وابتدوا يتنهنهوا، وتالت بيت يبكوا بصوت عالى وبعدين جالى القسيس وقالى كفاية كده يا ابنى فنزلت من على المنبر. قلت لكم بأننى التحقت بالكلية الأكليريكية وكعادتى باستمرار الأول في الكلية وتخرجت أيضا سنة 49 وكنت أول الخريجين بالقسم الليلى الجامعى وعينت بهيئة التدريس بالكلية وأصبحت حياتى حياة تكريس تقريبا ما عدا سنتين أو ثلاث قضيتها في التعليم الثانوى وما عدا التدريس في المدرسة الإنجليزية. الخدمة في مدارس الأحد منذ ذلك الحين ازداد نشاطى جدا في مدارس الأحد، حتى كنت أدرس في العديد من الفصول، وفى كثير من اجتماعات الشباب، وصرت عضوا باللجنة العليا لمدارس الأحد. وصرت رئيسا لتحرير مجلة مدارس الأحد، وصرت مدرسا بمدارس الرهبان بحلوان، وأفتكر لما إخوتنا في الجيزة أسسوا بيت التربية المسيحية بالجيزة، اللى بقى بيت المغتربين، جعلونى عضو مجلس إدارة في هذا البيت، وطبعا ما كنا ندعى إطلاقا لحضور جلسات يعنى اسم عبارة عن ديكور، وبعد ثلاث سنوات تقريبا سقط نصف الأعضاء بالقرعة لكى ينتخب بدالهم وأنا كنت من الذين استمرت عضويتهم وفى إحدى المرات كنا في زيارة الأستاذ حبيب جرجس مدير الكلية الأكليريكية ورئيس مدارس الأحد فقال له أحد أعضاء مدارس أحد الجيزة: يا حبيب بيه الأستاذ نظير جيد على يعنى عضو عامل معانا في جماعة التربية، فأنا قلت له: هو عضو عامل وعامل عضو؟ - يضحك - لأنى ما كنت أتدخل في شئونهم إطلاقا، كنت عزوفا عن المسائل الإدارية كثيرا، وأفتكر في مرة في بيت مدارس الأحد اللى هوه بيصدر المجلة، كانت مجموعة الأستاذ إدوارد بنيامين قصاد مجموعة الأستاذ ميخائيل عياد، مجموعتان في الانتخابات، وكل مجموعة تحب أنصارها هم اللى ينجحوا، وأنا كنت محبوبا من كلتيهما، ومش نجحت وأخدت معظم الأصوات، لا نجحت وأخدت كل الأصوات يعنى مجموع الأصوات كلها، كل الفريقين اختارونى، ولكن كل فريق عايز يكون رئيس مجلس الإدارة يكون منه، ومكسوفون منى إنهم يقولوا لى أنت واخد كل الأصوات وماتبقاش رئيس، فجوم في أول اجتماع وقالوا إحنا بتوع مدارس أحد، ومش بتوع مدارس أحد، فإحنا نعمل قرعة، طبعا القرعة تيجى لأى واحد منهم وبعدين يتنازل إلى كبيرهم، فقام عملوا القرعة فوقعت علىّ أنا برضه، لكن أسلوبى كان غير أسلوبهم تماما، أنا لى الأسلوب الروحى في الخدمة وهم ليهم الأسلوب الإدارى في الخدمة. التدريس بالكلية الإكليريكية تفرغت إلى الأكليريكية والتدريس فيها مع مدارس الأحد مع المجلة، أصبحت هذه الأمور الثلاثة هي التي تشغل كل وقتى، درست في الأول في الأكليريكية مادة شعوب الكتاب المقدس، فدخلت الحصة ورسمت نهر النيل، وبدأت أتحدث عن الدروس الروحية التي نأخذها من نهر النيل، وهذا نشر فيما بعد في كتاب كلمة منفعة، دخل مسجل الكلية وبص للسبورة وقال أنت بدرس إيه؟ قلت بدرس شعوب الكتاب المقدس في نهر النيل، فقال طيب، فماعجبهمش هذا الأسلوب فشالونى منه وادونى مادة العهد القديم، فبدأت أدرس مادة العهد القديم بمساعدة الأستاذ كامل متى الموجه للمادة اللى هو حاليا أبونا ميخائيل متى بالقوصية. الأستاذ كامل متى كان يميل إلى أن يتفرغ إلى الكهنوت، ففى آخر سنة له في الأكليريكية ترك لى منهج مادة العهد القديم كلها، بدأت أدرسها كلها، وهو تفرغ للاستعداد للكهنوت، وحينما صار الأستاذ كامل متى كاهنا في القوصية، كان المفروض أن أتولى مادة العهد القديم، ولكنى وجدت الأب القمص الموقر إبراهيم عطية مدير الكلية الأكليريكية يعين فيها القس منقريوس عوض الله يتولى مادة العهد القديم، وكان معروفا أنه أستاذ طقوس وكان له كتاب في الطقوس، فقلت له: أنت متعرفش يا أبونا أنى بدرس المادة دى، فقال لى: أه، لكن إحنا لو أنت قعدت في المادة دى مش هنكسب أستاذ جديد يعينه لنا المجلس الملى، فقلت له: اسمع يا أبانا، لا تكن مخاصمة بينى وبينك وبين رعاتى ورعاتك، أنا أعرف أن الأستاذ كامل متى بالكاد ينتهى بمادة العهد القديم ولا يدرس العهد الجديد، فأنا سأتولى تدريس مادة العهد الجديد، وهكذا صرت أول مدرس لمادة العهد الجديد في الكلية الأكليريكية، فلم تكن هذه المادة موجودة من قبل، بعد أن ذهبت إلى الرهبنة تولى تدريس هذه المادة عبدالمسيح بشارة، حاليا نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف وبعد أن ترهب عبدالمسيح بشارة تولى هذه المادة الدكتور موريس تاوضروس، لكنى درستها كأول مدرس لها بالكلية الأكليريكية. فيما بعد كنا ندرس في الكلية الأكليريكية المواد التي لم يكن يدرسها أحد من قبل، يعنى لما بدأنا التدريس كان هناك مواد جديدة لم تدخل الكلية الأكليريكية، مواد جديدة دخلت على يد وهيب عطالله حاليا نيافة الأنبا غوريغوريوس ومواد أخرى دخلت على يد نظير جيد والأنبا شنودة لكى نستكمل منهاج الكلية الأكليريكية. كيف دخلت إلى الرهبنة لم أدخل إلى الرهبنة سئما من الحياة أو عجزا عن مسيرتى فيها، فقد كنت ناجحا جدا في حياتى وأنا علمانى، وكنت مكرسا لله، وكانت تأتينى دعوات للوعظ خارج القاهرة في كثير من المحافظات، وكنت أعظ في الكنائس، وكنت محبوبا، وكنت خادما ناجحا في مدارس الأحد، ولكن كل هذا ما كان يشبع قلبى إطلاقا، كنت أشعر بأن في قلبى فراغًا لا يملأه إلا الله، ولعلكم تذكرون أنه من ضمن مقالاتى تحت عنوان انطلاق الروح، مقالة عنوانها لست أريد شيئا من العالم، وهذه المقالة نسكية إلى حد بعيد، قلت فيها لست أريد شيئا من العالم لأن العالم ليس فيه شيء يشبعنى لو كان ما أريده في العالم لتحولت الأرض إلى سماء ولكنها ما زالت أرضا كما أرى، مقالات انطلاق الروح كانت مقالات ممهدة للحياة الرهبانية، كذلك أيضا الشعر النسكى الذي كان ينشر لى في مدارس الأحد، ولعل من ذلك قصيدة وماذا بعد هذا التي تشرح كيف أن الإنسان مهما وصل إلى ما يريده الناس من العالم سينتهى إلى لا شيء، وآخر قصيدة كتبتها وأنا علمانى، قبل أن أذهب إلى الدير كانت قصيدة سائح التي أقول فيها وأنا علمانى لكن أتصور الموقف: أنا في البيداء وحدي ليس لى شأن بغيري لى جحرُ في شقوق التل قد أخفيت جحري وسأمضى منه يومًا ساكنا ما لست أدري سائحًا أجتاز في الصحراء من قفر لقفر ليس لى دير فكل البيد والآكام ديري لا ولا سور فلن يرتاح للأسوار فكري أنا طير هائم في الجو لم أشغف بوكر