فى خريف العمر حين يكل البصر وتثقل الخطوات ويضعف السمع .. يتغير نمط حياة الإنسان ولأنه نجيب محفوظ الذى يتمتع بوعى حاد بالنفس البشرية وعدسة تليسكوبية نافذة لا تخطئ أبدا قراءة الواقع واستشراف المستقبل.. ابتكر أديب نوبل هذا اللون الحداثى المكثف من الكتابة الأدبية (أحلام فترة النقاهة) حين أصاب الإرهاب أعصاب يمينه بالوهن والعجز.. لم يستسلم لأنه أعتاد أن يحول الأفكار المجردة إلى مشاهد تنبض بالحياة.. وانبثق شعاع الفجر بالصمت ثم الهمس ثم الرمز وانتظم إبداعه وتوالت الدفقات التى سبقت التكنولوجيا فى اختزالها وتكثيفها.. اصطفى كبيرنا (الحلم) ليناوشه ويستخرج من تيماته تجليات تتحرر فيها اللغة من كل الحواجز والحدود .. أليست الأحلام (فانتازيا ملونة) تتجاوز حدود الزمان والمكان والمنطق؟ هى أحلام فترة النقاهة التى يتأرجح فيها الإنسان بين الرجاء والأمل والمرض والتعافى.. هى أحلام البلسم الشافى التى تنطلق فى ثوب اللامعقول من بؤرة اللاوعى لبث الأمل ومقاومة اليأس وإشعال الوعى واستبطان الواقع وما وراءه رحلة خاصة جداً لصاحب نوبل يستقطر من خلالها حالة شديدة الإيجاز قد تكون حكمة أو خاطرة أو طرح سؤال أو إعادة قيمة للأشياء أو لفت النظر لعمق المفارقات أو التسليم بالأقدار وكيف أنها أقوى من الواقع وفكرة التمرد عليه، تؤكا محفوظ على الحلم الذى يهرب فيه الإنسان إلى بحور بلا شطآن وبين لحظة الذهاب والعودة يأتى المخاض «تميمة أدبية» قيمة بلا تفاصيل أو استطراد، لكنها على الدوام تقوم بإرواء القارئ ومنحه سلطة التأويل ومتعة فك الشفرات لأنها لتم تكن يوماً أضغاث أحلام. اصطفى نجيب محفوظ الأديبة الكبيرة المبدعة سناء البيسى واختصها بهذا الزاد الأدبى الذى انفردت به مجلة نصف الدنيا أثناء رئاسة تحريرها لها وفى عام 2015 أصدرت «دار الشروق» (أحلام فترة النقاهة.. الأحلام الأخيرة) 291 حلماً بمقدمة أدبية بديعة تحكى فيها قصتها مع الأحلام .. بحسها المرهف وقلمها السيال بمفردات الأصالة والجمال والفكر والذكريات، كان من حسن حظى أننى عاصرت هذه الفترة أثناء وجودى فى المجلة وشاهدت اهتمامها الطاغى واحتفاءها بكل ما كان يرسله أديبنا العظيم على ورق أبيض بسيط المظهر عظيم القيمة مع الحاج صبرى، لتقوم فى الحال بفك شفرات الخط باقتدار – حرفا حرفا – وفى ثوانى يتوهج وجهها الوردى بالحماس وتتحول غرفتها لخلية نحل تستدعى من سيكتب ويجمع وتتصل بالفنان الكبير محمد حجى لتزف إليه بشرى الحلم الجديد الذى سيقوم برسمه ولا تنسى أبداً الاحتفاظ ببعض الأصول وسط هذا الزخم، حيث كان يأتى أحيانا مقرونا باسمها بصيغته المحببة إلى نفسه «الست سناء» جاءت مقدمة أديبتنا الكبيرة بمثابة كتاب داخل الكتاب فرصدت بريشتها كيف كانت أول القارئات وأول المفسرات ورصدت بمجهود بحثى رصين كيف كانت الست فاطمة «والدته» هى بطلة الأحلام الأخيرة التى اكتشفتها بناته .. فقد اختصها ب 22 حلماً.. «الإنسان طول فترة حياته يعتمد على الأم فى أشياء كثيرة قد لا تكون بالضرورة مادية وإنما يعتمد عليها عاطفياً وتقرأ بعدستها الخاصة جداً 18 حلماً أخذها الحب وشئونه من مساحة الأحلام .. فيما يشغل الزعيم سعد زغلول وحب محفوظ الجارف له وتشبعه بأفكاره ما يقرب من ثمانية أحلام.. وتتوالى الأصوات الروائية وتتجدد متعة البحث عن المعنى وفك أطار التجريد من هذه اللوحات الإبداعية .. لتشمل رؤى عن جمال عبد الناصر وصلاح جاهين وسعاد حسنى «حلم رقم 387» وأحلامه عن الفساد .. «نبدأ بالوعظ والإرشاد وإذا لم يُجد ذلك عمدنا كارهين إلى وسائل أخرى».. بل كان نجيب يقرأ الغيب ويستشف ما يجرى للنيل المقدس هكذا التقطت الأستاذة سناء البيسى باقتدار شديد حلمه عن النيل والجماعات المتناحرة وحلمه لتحويلها إلى جماعات متعاونة لها ملك يقوم بتوزيع المياه بينها بالعدل».رحم الله أديب نوبل الذى مازلنا نخشع بالصفاء والألق والانشغال العقلى والوجدانى حين نكون فى محرابه وسلمت يد أديبتنا الكبيرة سناء البيسى عاشقة الدرر واللآليء. الكتاب: أحلام فترة النقاهة.. الأحلام الأخيرة المؤلف: نجيب محفوظ. الناشر: دار الشروق