بصرف النظر عن دق الطبول الأجوف احتفالا بأعراس ديمقراطية مزعومة, يعلم العارفون الثقاة أن الانتخابات حقا مكون من الديمقراطية ولكنه لا يعدو أن يكون القشرة الخارجية لبنيان مجتمعي مركب ومتكامل من الحريات والقيم والبني القانونية والمؤسسية الكفيلة بضمان غايات الديمقراطية في الحرية والعدل والمساواة. لذلك فإنه في غياب, أو تخلخل هذا البنيان قد تصبح الانتخابات, التي يسهل التلاعب بنتائجها, ولو في حدود بني قانونية وإجرائية مشوهة تتيح وسائل للتلاعب لا تصل حد التزوير الفاجر والمفضوح, والمدارة بحنكة وسيلة لإضفاء شرعية مزورة علي الحكم التسلطي أو حتي الاحتلال الأجنبي. ولنا في تاريخ مصر القريب تحت الحكم التسلطي الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه, ولم تنجح بعد, كما في خبرة العراق تحت الاحتلال الأمريكي منذ 2003, عبرة لمن يريد أن يعتبر. إن الاختيار المر الذي يواجهه شعب مصر الآن بين التلميذ النجيب, والمعجب الوحيد علي ما يبدو, وفق إعلاناته المتكررة, بالطاغية المخلوع, وبين صوت مرشده في التنظيم القائم علي الولاء المطلق والسمع والطاعة, والذي لا يقدم رؤية مغايرة لنسق الاقتصاد السياسي الذي أنتج الظلم الفاجر تحت الحكم التسلطي الساقط, هذا الاختيار المر هو نتيجة الارتباك والتخبط المتعمد الذي قامت عليه قرارات المجلس العسكري, مستهدفة الحفاظ علي نظام الحكم التسلطي الساقط وشخوصه, والدعم المطرد لتيار الإسلام السياسي في الوقت نفسه. إن الطرفين, الخصيمين للثورة, الفائزين في الانتخابات الرئاسية حتي الآن يتصارعان علي جثة الثورة الشعبية العظيمة باسم ديمقراطية مزيفة, فقد حصل كل من الفريقين علي الملايين الخمسة من الأصوات من خلال التلاعب بالإرادة الشعبية وبتوظيف الوسائل نفسها التي كان يستعملها الحزب اللاوطني اللاديمقراطي, أي الحشد الجبري والرشوة, والشواهد كثيرة, فالنفي المتكرر للمجلس العسكري, لخبر تعبئة مئات الألوف من مجندي الأمن المركزي للتصويت لمرشحهم ليس, كعادتهم, إلا اعترافا مشوبا بالإنكار! ويؤيد هذا الظن الزيادة الكبيرة وغير المبررة في أعداد الناخبين بين الانتخابات البرلمانية والرئاسية, ورفض لجنة انتخابات الرئاسة إعلان قوائم من لهم حق التصويت في البداية, لعل الفارق الرئيسي بين الفريقين هو في مصدر أموال الدعاية الضخمة والرشي الانتخابية, وقد تعددت أشكالها وتصاعدت قيمتها بين الانتخابات النيابية والرئاسية. في حالة بأموال نزلاء طرة,, فتمويل مرشح النظام الساقط جاء من أموال نزلاء طرة, ولهذا كان حرص المجلس العسكري وحكوماته علي عدم المساس بهذه الأموال المنهوبة من عرق الشعب. وفي الحالة الثانية, يحتمل أن أتت الأموال من دول الجوار المعادية للثورة, ويصعب أن نتصور أنها من أطراف مناصرة للثورة الشعبية, والله, والمجلس العسكري وحكوماته, أعلم بمصادرها, يرفض من في السلطة بيانها أو إجبار تيار الإسلام السياسي علي الإفصاح عنها. إلا أنه في النهاية وعلي الرغم من كل اشكال التلاعب الموروثة من نظام الحكم التسلطي الساقط, فقد حصل معسكر الثورة الشعبية مجتمعا علي أصوات أكثر من أي من الفريقين الخصيمين للثورة. ومن أسف أن مرشحي معسكر الثورة قد أسهموا في نتيجة الاقتراع المأساوية بالإصرار الأناني علي عدم التوحد علي مرشح واحد يمثل الثورة, وليس الاختيار بين مرشحي الإعادة مطروحا في نظري علي قوي الثورة الشعبية ومناصريها, فهو أشبه بالاختيار بين اقتلاع عين واقتلاع الأخري, فليقتتلوا علي جثة الثورة كما شاءوا ويتحملوا وزر الجريمة التاريخية التي اقترفوها. نعم سيحصل علي جثة الثورة واحد من الفريقين الخصيمين للثورة, ولكن ليحرمهم الشعب من ادعاء التفويض الشعبي الضخم, كما عبر عن قلة اكتراثه حيال انتخابات مجلس الشوري. وقتها سيبقي ضعف التفويض الشعبي للحكم مبررا إضافيا لاندلاع موجات تالية من الثورة الشعبية, وسيعود شبح الثورة الشعبية ليقض مضاجعهم, ولا يستبعد قيام صفقة ما بين الفريقين, بغض النظر عمن يعلنون عن فوزه بالغنيمة, وقد بدأت بعض معالم الصفقة المحتملة تتضح, فمرشح المجلس العسكري أدلي بطعم رئاسة الوزارة للإخوان, ولكن لن تكون هذه الصفقة في مصلحة الثورة أو الشعب لأن مؤداها سيكون انعدام رقابة المجلس النيابي علي الحكومة, ناهيك عن أن يسحب برلمان الإسلام السياسي الثقة من حكومة التيار نفسه, فالنظام البرلماني لا صلاح له إلا في وجود معارضة قوية يفتقر إليها المجلس النيابي الحالي, لكن لا يستبعد أيضا أن ينفجر التوتر الكامن في التوتر القلق بين الفريقين في صراع سافر له سوابق فليس اي منهما مشتهرا بصيانة العهود. هذا التقاتل البائس علي جثة الثورة بين المعسكرين, أحداهما معاد بالسليقة والثاني خاطف انتهازي, ليس معركة الشعب, ولا غرابة أن تعددت الاجتهادات في كيف يعبر الشعب عن استيائه من هذه النتيجة الصادمة بين المقاطعة أو إفساد الصوت عند المشاركة, فليحرمهم الشعب من شرف الادعاء بتفويض شعبي كبير لمن سيرسمونه فائزا بمقاطعة جولة الإعادة, ولا أحبذ ضرورة الاختيار بين أهون الضررين بدعوي الواجب الوطني. ما أراه أن الشعب سيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار, وأنا لست معنيا بالمفاضلة بين الخيارين, إذ ينتظر أن يكون النظام في كلتا الحالتين علي نمط شمولي استبدادي بالضبط مثل النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه, وفي أي الحالتين سيكون لدينا اقتصاد شمولي, احتكاري, تجاري, غير منتج, في نظام رأسمالي منفلت يؤدي الي انتاج إرث الظلم الاجتماعي القائم علي الفقر والقهر الذي أنتجه النظام الساقط, ولا أحد من المرشحين الاثنين المتنافسين في جولة الإعادة يقدم مقترحات جادة, ناهيك عن برامج رصينة, لتغيير هذا النظام. هناك أمل في نهاية النفق فقط اذا وضعنا ثقتنا في الشعب, هذا هو أملنا الوحيد ويجب ان يكون اعتمادنا الأساسي, حين تقوم الموجة التالية من الثورة وتنجح حتي يجد الثوار أنفسهم في مواقع الحكم ربما بعد عدة سنوات قليلة, وبالحساب العادي استغرق الشعب ثلاثين سنة حتي تقوم الموجة الأولي من الثورة في يناير2011 لكن أهم شئ حققته الموجة الأولي من الثورة الشعبية هو كسر حاجز الخوف, ومع استمرار القهر والظلم اعتقد ان المدة ستكون أقصر ربما من ثلاث الي خمس سنوات, ولدينا أمل ان تنتصر الثورة التالية ولا تسلم قيادتها لأحد يختطفها ويسلمها لغير الثوار. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى