فيما تضمنه حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي عبر التليفزيون الجمعة الثالث من يونيو فلقد توقفت عند أحد أهم مرتكزاته في إدارة شئون الدولة وهو حسب فهمي التحرر من سلبيات الماضي لكي لا تكون قيودا معوقة وفي نفس الوقت استثمار الإيجابيات وتعظيمها لتكون قوة محركة إضافية.. ولقد تلاقي هذا مع مسألة شغلتني طويلا وأعني بها عدوان الخامس من يونيو 1967 والذي استمر يسقينا المرارة علي مدي السنوات العديدة الماضية حتي برغم انتصار أكتوبر العظيم وأعتقد ونحن علي أبواب ذكري نصف قرن أنه ينبغي إعادة قراءة ما حدث في ضوء وقائعه المؤكدة.. وعلي ضوء ما يحدث الآن وهو تأكيد الثقة بالنفس وبالجذور.. وبداية.. ولكي نتفق علي المفاهيم والاصطلاحات.. فإن ما حدث في يونيو 1967.. كان عدوانا إسرائيليا مدعما سياسيا وعسكريا بالولاياتالمتحدةالأمريكية.. وهو كان معركة ولم يكن حربا.. فالحرب بتعريف العلوم السياسية والعسكرية تكون لها أهدافها الاستراتيجية التي يمكن تلخيصها في عبارة واحدة هي: «كسر إرادة الخصم واستسلامه للشروط التي تفرض عليه».. فإن لم يتحقق هذا تصبح مجرد «معركة» تتلوها معركة أو معارك أخري حتي يتحقق الهدف أو تنقلب الموازين. وهذا هو ما حدث. لكن قبل القفز إلي النتائج.. نعود لنقول: لماذا كان يونيو عدوانا ومدعما؟! ودون الدخول في تفاصيل.. فقد مهدت للأزمة تراكمات عديدة إلي أن تفجرت عندما طلبت مصر سحب قوات الطواريء الدولية التي كانت موجودة في جنوبسيناء وعلي خليج العقبة منذ ما بعد حرب السويس 1956 لكي تسمح بالمرور الملاحي للسفر إلي إسرائيل عبر البحر الأحمر.. وبالطبع ثارت إسرائيل والدول التي ترعاها وفي المقدمة الولاياتالمتحدةالأمريكية.. وكان ذلك في مايو 1967.. ومع أن مصر كانت تملك الحق في هذا كما قال لي الجنرال الهندي ريكي قائد القوات وكنت قد قابلته في الهند منذ نحو ثمانية عشر عاما وكان قد أصدر كتابا عن ذكرياته ورغم أن الأمين العام للأمم المتحدة وقتها «أوثانت» قد أجري اتصالات ايجابية مع جمال عبد اةلناصر.. فإن الولاياتالمتحدة دخلت علي الخط وتم تبادل الرسائل بين رئيسها ليندون جونسون وبين عبدالناصر واتفق الاثنان علي سفر زكريا محيي الدين نائب الرئيس المصري إلي واشنطن يوم الخامس من يونيو لإجراء محادثات تسوية الأزمة مع الرئيس الأمريكي! وبهذا.. رأي البعض ان الأزمة في طريقها إلي الحل.. لكن في نفس الوقت وفي سرية تامة كانت تجري اتصالات تؤكد ما سيحدث بأنه «عدوان» بل إنه عدوان يتنافي مع القواعد الأخلاقية إضافة إلي القانونية للتعامل الدولي وخاصة في الأزمات الدولية وبالذات في الاتصالات بين رؤساء الدول.. ومن أمثلة هذا.. الاجتماع الذي تم سرا في العاصمة الأمريكية في مايو بين رئيس المخابرات الإسرائيلية ورئيس المخابرات الأمريكية وبصحبة كل منهما وفد من العسكريين والمخابرات واتفاق الطرفين بعد موافقة حكومتيهما علي خطة العدوان العسكري الذي ستقوم به إسرائيل صباح يوم الاثنين الخامس من يونيو ضد مصر وسوريا والأردن.. وكيف ستكون المساعدات الأمريكية عسكريا.. ثم سياسيا.. وهذا ما تم بالفعل وساعدت عليه سلبيات علي الجبهات العربية الثلاث.. لعل أخطرها في رأيي تمسك عبد الناصر بالدبلوماسية الأخلاقية فقد احترم اتفاقه مع جونسون كما احترم كلمة الرئيس الفرنسي وقتها الجنرال شارل ديجول الذي ناشد الطرفين عدم إطلاق النيران وقال إنه سيدين من يبدأ بذلك. ومن السلبيات الظاهرة ما حدث مع اللواء عبد المنعم رياض الذي كان الملك حسين قد طلب أن يسافر إلي الأردن ليتولي قيادة الجبهة.. ففي صباح الخامس من يونيو وكعادته استيقظ رياض مبكرا وخرج من مقر قيادته وإقامته المطل علي البحر الميت ومن ورائه إسرائيل.. فشاهد أسراب طائراتها تتجه جنوبا فأدرك أنها لابد متجهة إلي مصر.. فسارع إلي ضابط الشفرة يمليه رسالة تحذير إلي القيادة المصرية.. وكم كانت الفاجعة عندما لم يتلق جوابا.. وعندما فشلت الاتصالات الأخري بالقيادة وفيما بعد اتضح أن القيادة المصرية كانت قد غيرت قبل ساعات رموز الشفرة ولم تخطر بها قيادة عبد المنعم رياض!! فضلا عن أن نائب القائد الأعلي المشير عبد الحكيم عامر كان وقتها في طائرة تحمله إلي مطار المليز بسيناء حيث تجمع القادة لملاقاته هو ومن معه من القيادات.. وعندما فوجئوا بما جري.. عادوا بسرعة إلي مطار القاهرة.. وكانت الأحوال مرتبكة سيئة إلي حد أن المشير لم يجد سوي أن يستقل سيارة تاكسي إلي مقر القيادة! لقد تضافرت عوامل عديدة ليحدث ما حدث.. وقد قيل ما قيل عن الانسحاب.. وعن عمليات قتل الأسري التي قامت بها القوات الإسرائيلية.. وتوارت أعمال جيدة قامت بها بعض التشكيلات القتالية، التي عادت بأسلحتها كاملة.. وهي مسجلة في البحوث العسكرية، للقوات المسلحة.. هذا إضافة إلي ما يجب تعظيمه وهو الإيجابيات التي أثبتت وأكدت أن المصري محارب لكل العصور.. وأن السبيكة المصرية نادرة.. وهل يعلم البعض مثلا أن مجموعة عمليات من القوات المنسحبة قد استطاعت بعد أيام فقط أن تتصدي لقوة مدرعات ومشاة إسرائيلية كانت متجهة من القنطرة شرق لتستولي علي «رأس العش» في سيناء في مواجهة بورسعيد.. ولو كانت قد نجحت لكانت قد استولت علي مدينة بورفؤاد - في سيناء وتفصلها عن بورسعيد بل كان سهلا عليها بعد ذلك أن تفصل بورسعيد عن الوطن! وهل يعلم الكثيرون أن مجموعات من القوات الخاصة عبرت قناة السويس إلي سيناء بعد احتلالها في يوليو أي بعد أقل من شهر من العدوان، لكي تفجر مخازن الأسلحة المصرية حتي لا تقع في أيدي العدو! إن الأحداث علي الجبهة عديدة بدءا من مرحلة الصمود إلي الدفاع النشط إلي الردع ثم إلي الاستنزاف ومعركتها الباسلة، حتي يوليو 1970 عندما بكت إسرائيل في أسبوع تساقط طائرات الفانتوم السريع.. وطلبت وقف إطلاق النار فكانت مبادرة روجرز وزير خارجية الولاياتالمتحدة ووافق عليها جمال عبد الناصر لكي تبني القوات المسلحة حائط الصواريخ غرب قناة السويس.. وتم هذا خلال أربعين يوما وكان الهدف نقل الصواريخ وبناء منصات لها لتحمي سماء المعركة المنتظرة بالعبور لمسافة خمسة عشر كيلو مترا شرق القناة.. علي أي حال، إننا هنا لا نؤرخ لما كان وهو مثير جدا لكننا فقط نقصد تبيان أن يونيو 67 كشف المسرح السياسي الدولي بأخلاقياته.. وأن مصر قد استطاعت بإرادة الشعب الذي خرج يومي 9 و10 يرفض الهزيمة ويطلب من عبد الناصر البقاء والاستمرار.. ومنذ اليوم التالي أعادت مصر بناء القوات المسلحة في ثلاث سنوات بينما كانت مراكز الفكر الاستراتيجي تقدر مدة ما بين عشر إلي خمسة عشر عاما لكي تقف مصر مرة أخري علي قدميها وتبني قواتها المسلحة. كان هذا هو السائد.. لكن عبد الناصر قال للقيادات انه بفضل الله وصلابة الجبهة الداخلية فإن إعادة البناء ستستغرق ثلاث سنوات فقط ولن تزيد بأي حال عن خمسة! ولقد حدث..وواكب البناء العسكري.. إعادة البناء السياسي في بيان 30 مارس 1968.. ونشطت القوي المدنية.. ومارست الثقافة دورها وأبدع الفن رغم الظروف.. وصدرت كتب تؤصل وتتحدث عن مصر والمصريين.. وتأسست فرقة الموسيقي العربية.. وتراجعت الجريمة.. وبذل كل مواطن أقصي ما يستطيع في عمله.. وفي سبتمبر 1970 ذهب القائد العام الفريق محمد فوزي ليعطي التمام للقائد الأعلي جمال عبد الناصر ولم تكن تبقي سوي صفقة سلاح من الاتحاد السوفيتي كان مفروضا أن تصل خلال أسابيع.. وبها تصبح القوات مستعدة للعبور واقتحام خط بارليف باستخدام مدافع المياه وفق الخطة التي سبق أن صدق عليها القائد الأعلي في العام السابق 1969. وفيما كان مخططا.. فإن الحرب كانت ستبدأ في ربيع عام 1971.. لكن ذلك لم يحدث لرحيل عبد الناصر في سبتمبر 1970.. وعلي أي حال فانه قد آن لنا أن نوقف جلد الذات.. ونعيد قراءة يونيو.. لنعرف أن مصر ما بعد يونيو قد فعلت ما يشبه المعجزة.. حتي كان الانتصار في أكتوبر العظيم 1973.