تحت عنوان إثيوبيا ومصر.. زيارة لتاريخ حقيقي جاء مقال الأستاذ يحيي غانم الصحفي بالأهرام الذي نشر في الثاني من شهر ديسمبر2009 في صحيفة الهيرالد الإثيوبية. والحقيقة أن ما أتي عليه الأستاذ يحيي غانم في مقاله كان حافزا لي للرد علي تلك المبادرة بأخرى. فبالرغم من اتفاقي مع بعض النقاط التي أثارها الأستاذ غانم علي الجانبين المصري والإثيوبي وخاصة فيما يتعلق بعدم وعي كل من الإثيوبيين والمصريين بالعديد من الأرضيات المشتركة الايجابية التي تجمعهم إلا أنني أختلف معه فيما يتعلق بالتأكيد علي الصورة الذهنية السلبية التي يختزنها الاثيوبيون لمصر بزعم أنها تقف ضد المصالح الاقتصادية الإثيوبية وبتعلقها بميراث استعماري. حقا, فقد كانت توجد مشاعر عداء خلال نظام الحكم الشيوعي في إثيوبيا حيث كان الالتحاق خلال الحرب الباردة بالكتلتين الشرقية والغربية له انعكاساته علي العلاقات الثنائية, ففي ذلك الزمان اتهم النظام الشيوعي مصر بأنها معادية لإثيوبيا تحت مزاعم دعمها للمتمردين في اريتريا وإقليم التيجراي شمالي البلاد والذين كانوا يحاولون إزاحة النظام الحاكم في أديس أبابا. أيضا فانه من المحتمل أن يكون البعض قد استمر يحمل مثل هذه المشاعر فيما بعد حيث إنه من الطبيعي أن يحتفظ البعض برؤي مختلفة ومتباينة بشأن أي شيء في العالم إلا أن هذه الرؤي لا تنسحب ولا تمثل80 مليون إثيوبيا. فبالرغم من الدعاية المكثفة للنظام الشيوعي السابق ضد مصر إلا أن العديدين من الاثيوبيين ظلوا يدركون ويميزون العلاقات الجديدة بين البلدين والتي تدعمت خاصة في زمن حكم الامبراطور هيلاسيلاسي الذي كان هو والزعيم الراحل جمال عبدالناصر صديقين حميمين وكانا يتوقان للوحدة الافريقية بالاضافة الي كونهما من بين الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية, وهو البنيان الذي مازال يحيا بقوة حتي الآن. وفوق ذلك وقبل ذلك, فإن الإثيوبيين مدركون بالعلاقات بعيدة الأمد بين البلدين ليس فقط علي مستوي الحكومات, وإنما علي مستوي الشعبين والدين, فكلتا الأمتين الموغلتين في القدم علي أرض إفريقيا منحت اللجوء الآمن لأكبر ديانتين في العالم, فالإنجيل يؤكد لنا أن ملاك الرب أمر يوسف النجار لاصطحاب عيسي عليه السلام رضيعا هو وأمه مريم واللجوء إلي مصر هربا من الملك الوثني هيرود الذي كان يقتل أطفال اليهود حديثي الولادة, في حين أن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام أمر أتباعه باللجوء إلي إثيوبيا هربا من الاضطهاد الذي استهدف القضاء عليهم, هاتان الأمتان هما الأكثر ذكرا في الكتاب المقدس( الإنجيل) الذي سيفقد الكثير من جوهره من دون ذكر وقائع مصر الواردة فيه, وهي الوقائع التي تمثل أرضية مشتركة حيوية بين البلدين. بعيدا عن ذلك فإن الاثيوبيين يدركون بالتأكد كيف ربط الله تعالي بينهم وبين مصر من خلال ذلك الميراث المشترك المتمثل في نهر النيل كتاريخ ومورد تشترك فيه الأجيال الحالية والقادمة التي لايمكن أن تفصمه, ومع كل هذه الروابط القوية التي لايمكن قطعها, فإن الشعبين يصبوان إلي السلام الأمن لكل منهما الآخر, إن مصر وإثيوبيا لايمكن أن يصف كل منهما الآخر بالعدوان, إلا في حالة سيادة وغلبة الجهل وغياب المعلومات, وحتي في حال رغبة كليهما تجنب الآخر, أو حتي اتهام الآخر بالعداء فإنه يبقي أن الله تعالي ربطهما بالنيل الذي لايمكن إلا أن يربطهما معا, ولعل الخلفية التاريخية الدينية المشتركة تعد نموذجا علي الروابط التي تجمع بين البلدين, فأساقفة إثيوبيا كانوا يأتون ويرسمون من كنيسة الإسكندرية حتي بداية ستينيات القرن العشرين, وحتي الآن, فإنه يوجد حنين جارف في اثيوبيا لكنيسة الإسكندرية المصرية التي تتمتع بعلاقة قوية مع كنيسة اثيوبيا, تلك العلاقة التي بدأت منذ اعتنقت اثيوبيا المسيحية من خلال مصر, ففي القرن الرابع الميلادي رسا الأخوان السوريان ديسيوس وفرومينتوس علي سواحل اثيوبيا حيث وقعا في أسر الإمبراطور إلا أميديا في زمن حملت فيه إثيوبيا اسم أكسوم وذلك قبل أن يعتقهما الإمبراطور من العبودية لكي يأتي ابنه ازانوس من بعده في عام303 ميلادية لكي يعتنق المسيحية علي أيدي الأخ فرومنتوس الذي لقب فيما بعد ب( أبا سلامة). فيما بعد, توجه الأخ فرومنتوس إلي كنيسة الإسكندرية المصرية التي رسمته أسقفا لاثيوبيا, هذه النبذة القصيرة والسريعة تؤشر إلي العلاقات القديمة والقوية بين البلدين عبر القرون, وبالإضافة إلي كون البلدين وطنا في الوقت الحالي لكلتا الديانتين المسيحية والإسلامية, وكما قلت سابقا, فإن اثيوبيا أجارت واستضافت أتباع الرسول محمد( المهاجرين الأوائل) لينجوا بحياتهم من الاضطهاد في السنوات الأولي للدعوة ومنذ ذلك اللجوء المبكر للمسلمين, بدأ تاريخ طويل للاسلام في هذ البلاد هو الدين الذي يعد دينا رئيسيا في إثيوبيا حتي الآن, أكثر من ذلك فإن الحضارات الكوشية والأوكسومية التي ازدهرت في فترة من الزمن في مصر القديمة واثيوبيا تحتل مكانا متميزا في تاريخ الجنس البشري, كما أنها مصدر فخر لشعوب إفريقيا, وإسهام في مسيرة وإنجازات البشرية. بالتأكيد, فإن الأرضية المشتركة قائمة بين البلدين في الحضارة والدين والدم, وفوق كل ذلك في منحة الله, ألا وهي نهر النيل, إن القضية هي في ضرورة تذكير شعبينا الحبيبين بهذه الروابط استنهاضا للتخطيط للمستقبل معا.. ففي هذه اللحظة فإننا لدينا فرص أكثر وأعظم مما كانت قائمة في الماضي فإذا كان أجدادنا قد أقاموا هذه العلاقات علي مثل هذه الأرضية القوية الثابتة منذ قرون طويلة, فما السبب الذي يمنعنا من أن ندفع بهذه العلاقات عدة أميال أخري للأمام؟. بالتأكيد, نحن نقدر علي ذلك ونستطيعه, ولكن السؤال هو كيف؟ سوف أتأمل في بعض سبل دفع العلاقات الثنائية ثم أطرحها في مقال قادم...