اتسمت الدورة الخامسة والستون لمهرجان كان السينمائي التي انتهت الأحد الماضي بأنها دورة الأفلام التي تتحدث عن الحب وتناقش صوره المختلفة وتجلياته علي اختيارات القسم الرسمي للمهرجان. وجاء علي رأسها جميعا فيلم( حب) للمخرج النمساوي مايكل هاينكاه. ويحكي عن قصة اختبار يتعرض له حب زوجين في الثمانين من عمرهما عندما تصاب الزوجة بجلطة في المخ وتفقد القدرة علي الحركة. وكأنهما ولدا من جديد, يتحول الزوج الي ممرض لزوجته بالمنزل بعد أن وعدها ألا يعيدها إلي المستشفي مرة أخري. وفي رحلة الآلم والمساندة, يستعيد الزوجان كل لحظات الحب الجميلة بينهما والتي تمتلئ بالكثير من اللحظات الرائعة خاصة وانهما مدرسان للبيانو في باريس. يحاول الزوج أن يملأ أيام زوجته الأخيرة بالامل والكرامة ويخبرها كم هي جميلة. لكن صحة الزوجة تنهار سريعا وتفقد ذاكرتها وتتجمد مشاعرها وأي اثر آخر لحبهما الذي دام نصف قرن. لا يستطيع الزوج العجوز تحمل الموقف ويكاد يجن حتي يخنق زوجته المريضة في النهاية. هانيكاه كعادته يصور حالة العدمية والخواء الروحي التي وصل إليها الانسان في الغرب. حيث لم يحتمل الرجل أن تتحول محبوبته الي شبح فقتلها. الايراني عباس كيار وستامي قدم في فيلمه( مثل شخص يقع في الحب) التي تدور أحداثه في اليابان حول علاقة تربط بين فتاة شابة غير سوية وكاتب طاعن في السن. أحد القوادين يرسل الفتاة للرجل وتذهب له مانحة نفسها لكنه يتجاهل ذلك, ويجعل كل همه أن تهتم به كما هو منجذب لها. يوصلها لدراستها بالجامعة ويضطر للكذب علي شاب يريد الزواج منها, حتي يكتشف هذا الشاب الحقيقة ويقوم بضرب الفتاة بعنف, يقدم الفيلم قسوة الوحدة علي رجل عجوز وكيف دخل الحب قلبه رغم مهنة الفتاة. ليؤكد كيار وستاني أن الاحتياج للحب يفوق ما سواه لدي الانسان. أما الفيلم الفرنسي الصدي والعظم فيقدم علاقة حب شديدة التناقض بين امرأة جميلة تعمل مروضة درافيل وملاكم متبلد المشاعر. يحاول الملاكم أن تكون لديه حياة طبيعية مع الناس بتربيته لابنه الصغير الذي لا يتجاوز الخامسة, لكن ظروفه الصعبة تمنعه. تفقد المرأة ساقيها في أحد عروض الدرافيل, ويجد الملاكم نفسه منجذبا لها أكثر بل ويدفعها لمطارحته الغرام. شيئا فشيئا تتمكن السيدة من اقناع الملاكم بضرورة التخلص من همجيته وتعلمه الكثير من القيم النبيلة في الحياة أهمها قدسية الحب وضرورة الحفاظ عليه. الحب في هذا الفيلم يتجاوز الحدود الجسدية ويصبح وسيلة لارتقاء الانسان. ويؤكد أن أصحاب الاحتياجات الخاصة قد يمتلكون حبا يغير من حياة أصحاء الجسد. ومن أجمل الأفلام التي توقفت أمامها شخصيا كان فيلم( هيمنجواي وجيلهورن) عن قصة الحب الاسطورية بين الكاتب الامريكي الاشهر أرنست هيمنجواي ومواطنته الكاتبة الصحفية مارتا جيلهورن, أجواء الفيلم الساحرة تدور في أربعينات القرن الماضي حيث تشتعل الحرب العالمية الثانية. تتوج قصة الحب من البداية بالزواج لنري كيف يكون الحب بين الاذكياء أثناء وقت صعب من تاريخ البشرية. الساحة بينهما ممتلئة هي الأخري بحروب من الصعب الخوض فيها أو مناقشتها عن علاقة الرجل بالمرأة, عن حرية المرء في زمن الفاشية, وعن كيفية مواجهة الشر الكامن بداخل نفوسنا. لكن المذهل أن تلك الصحفية قوية الشخصية قررت ان تعيش ظلا للكاتب الاشهر رغم تواجدهما معا في كل المنتديات الراقية بدءا من البيت الابيض حتي أروقة هوليوود. ويظهر الفيلم أن حب الاقوياء له مذاق حارق أحيانا. وقد تألقت نيكول كيدمان في دور جيلهورن وقدمت مزيجا من الرقة والتحدي. واستعاد المخرج فيليب كوفمان بريقه وفهمه للحب الذي تميز به فيلمه الأشهر( خفة الحياة التي لا تحتمل) عن رواية ميلان كونديرا. الروماني كرستيان مانجيو قدم قصة حب محرمة بين فتاتين في فيلمه( فوق التلال). تربت الفتاتان في احد الملاجئ والتحقت إحداهن بأحد الأديرة حيث تدور أحداث الفيلم. تأتي الأخري الاكثر عنفا من رحلة غامضة ليتم استضافتها علي مضض في الدير. وعلي الرغم من أن الفيلم تحاشي بشكل مباشر إظهار حقيقة العلاقة بين الفتاتين, الا ذلك الحب المرضي من الزائرة للراهبة يدمر الدير كله بل يجعل القسيس وعددا من راهبات الدير يتعرضون لدخول السجن في نهاية الفيلم بسبب موت تلك الزائرة في ظروف غامضة. إننا هنا بصدد الحب المرضي الذي يهدم الكل أمامه ولا يصل إلا للموت. أما الفيلم الفرنسي( الامتناع) فهو يتحدث عن حب شديد الصعوبة بين شاب أسود من أصول إفريقية وبين فتاة من أصول مغاربية يقف مجتمع عرب فرنسا خاصة الأخ الأكبر للفتاة ضد أن يتحول الحب الي زواج, ليواجهنا الفيلم بقضية أكثر صعوبة هي هل من يتعرض للاضطهاد يتحول يوما ما ويصبح ظالما؟ المخرج نفسه من اصول جزائرية وسودانية معا قد عاش حياته متعرضا لنفس الأسئلة التي طرحها بالفيلم الذي صنعه بدون تمويل وبشكل مستقل تماما. وعلي الرغم من عرضه في قسم( نصف شهر المخرجين) الهامشي حصل الفيلم علي جائزة الاتحاد الدولي للنقاد بسبب طرحه المتجدد واظهاره باريس بصورة شديدة البكارة. الأطياف تخرج من الكلمات: كانت الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية أحد أهم ظواهر المهرجان هذا العام. ففي المسابقة الرسمية وحدها حضرت ثمانية أفلام مأخوذة عن روايات, بالاضافة الي فيلم واحد مأخوذ عن مسرحية هو أنت لم تر شيئا بعد للفرنسي آلان رينيه. ومن المعروف أن السينما قد اعتمدت منذ بداياتها علي الأدب قبل أن ينفرط العقد ويذهب كل منهما الي حال سبيله, لتظهر كل فترة زيارة خاصة من عالم الأطياف الي عالم الكلمات المكتوبة. وقد أصبح الفن السابع يلجأ الي الأدب عندما يكون الكتاب من أكثر الكتب مبيعا. وهكذا كان الحال هذا العام مع رواية علي الطريق لجون كرواك التي يلتف صناع السينما حولها منذ عام.1957 حتي كرواك عرضها بنفسه علي مارلون براندو حتي اشتراها كوبولا عام1969 لتستقر هذا العام بين ايدي المخرج البرازيلي والتر سالاس. وقد نجح الي حد كبير في ترجمة روح( أعوام النبض) وارضاء حراس الرواية الأحياء. أما آلان رينيه فقد استخدم مسرحية جان أنوي الشهيرة أوريديس لكي يحكي عن أشياء شخصية جدا بالنسبة له. وظهرت إيضا هذا العام بقوة الروايات البوليسية الامريكية المسماة( نوار) من خلال فيلمي القتل ببطء عن( الفن والأسلوب) لجورج هيجنز, ورجال بلا قانون عن( من أجل قطرات من الكحول) لمات بونديرانت. وفي قسم نظرة ما قدم مخرج من كازاخستان هو أمير نزار باييف معالجته لرواية دستويفسكي الشهيرة( الجريمة والعقاب). وفي قسم نصف شهر المخرجين قدم الصيني هونج جينج هو رؤيته لرواية العلاقات الخطرة لكوديرلوس دي لاكلو. وعرض فيلم رسوم متحركة( مغامرات أرنست وسيليستين) عن رواية نفس الاسم لجابرييل فانسون. أما فيلم ختام المهرجان عن رواية فرانسو مورياك الرائعة( تيريز ديكيرو). لكن يظل فيلم( كوزموبوليس) متميزا فكان ديفيد كرونبرج أحد أفضل الأفلام هذا العام وهو مأخوذ أيضا عن رواية بنفس الاسم للكاتب الامريكي دون دي ليلو. وقد أعرب الكاتب عن سعادته الكبيرة بطريقة كروننبرج في التعامل مع عمله الأدبي. وقال الأخير إنه كتب سيناريو الفيلم في ستة أيام فقط بسبب روعة الرواية ودقة الحوارات في التعبير عن مكنون الشخصيات.