تمر علاقات مصر بقارتها الإفريقية بمنعطف تاريخى مهم يمكن لو أحسنا استغلاله أن نضع قواعد لعلاقات راسخة استراتيجية ومتشعبة تعيد لمصر دورها المحورى والمنشود بالقارة. فتتوافر الارادة السياسية والرغبة الشعبية والرسمية للتواصل بجدية والتزام مع الاشقاء فى القارة ودولها المختلفة وبناء صرح علاقات قائم على المنفعة المتبادلة والاستفادة من الإمكانات المتاحة لكل طرف، خاصة فى توقيت مهم من عمر القارة الإفريقية تنظر فيه لمصر كسند امام التحديين الأهم اللذين تواجههما وهما تحدى التنمية وتحدى الإرهاب، ولا شك ان مبادرة مصر المحمودة باستضافة مؤتمر إفريقيا 2016 للتجارة والاستثمار فى مدينة شرم الشيخ فى فبراير الماضي، وما أظهرته من حرص مصرى على التواصل مع بلدان القارة بشأن جهود التنمية وسبل مواجهة المشكلات الاقتصادية والاستثمارية برؤية إفريقية جادة وناضجة، كان لها اثر بالغ فى إعادة الصورة الذهنية الزائدة لمصر كداعم رئيسى لاقتصاديات القارة ومساندا لدوله، وهى فى أشد الحاجة لهذا الدور ولهذا الحضور. أنشأت مصر كذلك الوكالة المصرية لتوسع نشاط الصندوق لمصرى للتعاون الفنى مع إفريقيا، وتشارك بفاعلية فى جهود حفظ السلام بالقارة. أما التحدى الآخر والذى أدركت مصر خطره، فهو تحدى الإرهاب الذى بات عابرا للحدود وتتصل فيه الجماعات الإرهابية بعضها ببعض، وتتبادل الأفكار والأفراد والموارد وتنتقل عبر الحدود المختلفة بسهولة ويسر، وتمارس علاوة على الاعمال الإرهابية جرائم اخرى متصلة منها الاتجار بالبشر وتهريب السلاح والمخدرات، علاوة على ما ترتكبه من ترويع للسكان المدنيين، فكان تدخل مصر على هذا الملف مطلوبا ومحمودا لقدراتها وما تمتلكه من خبرات ومعلومات وقدرات تدريبية وتسليحية يمكن ان تعزز قدرات دول القارة التى باتت جميعها فى مرمى الإرهاب وجماعاته بمسمياتها المختلفة من الشباب الصومالية فى شرق القارة الى بوكو حرام فى غربها الى القاعدة فى بلاد المغرب العربى فى شمال القارة وأنصار بيت المقدس وداعش وغيرها من الجماعات الجهادية السلفية المتشددة. وإدراكا لأهمية أن تكون المواجهة شاملة لظاهرة الإرهاب فدعت مصر 27 وزير دفاع من دول الساحل والصحراء لمؤتمر استضافه السيد وزير الدفاع فى مدينة شرم الشيخ فى مارس الماضى لتنسيق الجهود، واتفق خلاله على إنشاء آلية تنسيقية بالقاهرة، وتعزيز التعاون بين اجهزة مكافحة الإرهاب وعرض مشاريع الوثائق الخاصة بالإطار القانونى والمؤسسى لمواجهة الجماعات المسلحة وتهريب السلاح والمخدرات عبر الحدود. وهكذا وضعت مصر يدها على ركيزتى العلاقات الاقتصاد والتنمية من جانب، والإرهاب من جانب آخر، وكلاهما متصل فلا تنمية دون أمن واستقرار، وان مكافحة الإرهاب تستلزم جهدا مشتركا ومنسقا شأنها شأن التعاون الاقتصادى والتنموي. ومن المناسب تأكيد ثلاث أولويات على مصر مراعاتها للاستفادة من الظرف التاريخى غير المكرر الذى تجمع فيه الإرادة السياسية باتجاه القارة، وفى الوقت الذى تجمعنا بدوله احتياجات وتحديات أمنية يشكلها خطر إرهابى داهم، وبالطبع حاجة اقتصادية وتنموية، تملك مصر فيها الكثير لتقدمه لأشقائها، بحكم خبراتها وقدراتها، الأولويات تلك أولها ضرورة استغلال وضعنا المؤسسى داخل مجلس الأمن الإفريقى والدولى لصالح تملك شرعية اتخاذ مبادرات فى مسائل وقضايا تعيد تدريجيا لمصر مكانتها وتأثيرها فى حل وتسوية المنازعات، واستعادة أوراقنا الإقليمية، خاصة فى شرق القارة الإفريقية لاسيما فى الصومال، مع تعزيز العلاقات مع جيبوتى لمكانتها الإقليمية والاستراتيجية المتنامية، والاستمرار فى دعم الجهود الخاصة بتسوية الأوضاع فى بوروندى والسودان والكونغو الديمقراطية، ومن ذلك استضافة الفاعلين الرئيسيين وعقد الندوات، وربما التواصل الهادئ، خاصة فى أزمات الصومال وجنوب السودان بما يعيد الدور الاستراتيجى بشرق القارة، وبما يتيح التأثير فى ملفات كثيرة مختلطة ومنها ملف مياه النيل، الذى يجب أن يدار بحكمة فتطرح مصر رؤيتها للإدارة المشتركة للنهر ضمن نطاق يشمل سدود البلدان الثلاثة من أجل المحافظة على مصالح أطرافه. أما عن الاقتصاد فبالإضافة لاستمرار مبادرات مشابهة لمؤتمر التجارة والاستثمار المشار اليه فى شرم الشيخ «إفريقيا 2016» والمتوجب متابعة نتائجه، أن نعيد تدارس طرح مبادرة اقتصادية مصرية مشابهة فى أساسها للمبادرات الهندية والصينية والكورية والتركية والروسية، والتى تخصص ميزانية مهمة لتمويل مشروعات بدول القارة شريطة ان تنفذها شركاتها، مما يفتح لشركات هذه الدول آفاقا واستمرارية بالأسواق الإفريقية، ويتم الاقراض وفقا لمنظومة تجارية تفضيلية، تستفيد تلك البلدان المقدمة للقروض الميسرة من جدارتها الائتمانية مقارنة بالبلدان الإفريقية المتلقية للقرض الميسر، الذى يتم سداده فى جميع الأحوال على أساس تجارى تفضيلى ولكن تنفتح الأسواق أمام شركات الدول المقرضة، لذا فتخصيص صندوق تمويل بقيمة 500 مليون دولار لتمويل نشاط شركاتنا سيكون له عائد فى توطين تلك الشركات، وربط الأسواق الإفريقية بمنتجاتنا وصناعتنا الوطنية، ودائما ما ترتبط تلك المبادرات الاقتصادية المدروسة، بمكون تعليمى من خلال تقديم منح دراسية لآلاف من الطلبة الافارقة الذين يعودون لبلادهم بعد سنوات الدراسة، مرتبطين بثقافة الدولة المضيفة، داعمين للعلاقات معها، محافظين فى الغالب على مصالحها واولوياتها. مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون الإفريقية لمزيد من مقالات د . محمد حجازى