حلت منذ أيام ذكري ميلاد الأديب والقاص الكبير الدكتور يوسف ادريس، وقد تصادفت هذا العام مع ذكري مرور ربع قرن علي رحيله، حيث غادر دنيانا في شهر أغسطس من عام 1991 بعد صراع قصير مع المرض أخذه الي بريطانيا حيث توفي بأحد مستشفيات لندن، وليس أدل علي حالة التردي التي وصل إليها المشهد الأدبي العربي والثقافي بشكل عام، من حالة عدم الاكتراث التي أصبحنا نتعامل بها مع رموزنا الأدبية الشامخة وذكراهم، رغم المكانة الشامخة التي يحتلها بعضهم، ومنهم يوسف إدريس صاحب البصمة التي لا يمكن تجاهلها في فن القصة القصيرة علي وجه الخصوص، رغم ابداعه المميز في المسرح وانتاجه المقدر في الرواية. لقد نقل يوسف ادريس القصة القصيرة العربية نقلة نوعية منذ بدأ يكتب عام 1950، وفتح أمامها آفاقا جديدة لم تكن واردة من قبل، ومن يرجع إلي القصة القصيرة كما كتبها محمود تيمور مثلا ليعقد مقارنة مع ما كتبه يوسف إدريس يدرك علي الفور حجم الإنجاز الذي حققه لنا يوسف إدريس، فلاشك أن محمود تيمور، ومن قبله شقيقه الأكبر محمد تيمور الذي توفي في ريعان شبابه، هو رائد فن القصة القصيرة الذي وضع أسسها المتينة التي مهدت لذلك البنيان الفني الذي أصبحنا نعرفه الآن، ولولا قصص محمود تيمور ما كان يوسف ادريس قد أبدع ذلك الإبداع الذي يكاد يكون الأكبر الذي عرفته القصة القصيرة العربية. إن تفوق يوسف ادريس في فن القصة القصيرة لا يتفوق عليه إلا إبداع نجيب محفوظ في الرواية، فقد حقق محفوظ في الرواية انجازا لا يضاهيه أي انجاز لغيره، بينما يظل ابداعه القصصي الذي لا شك في قيمته الفنية، أقل في تفرده من إبداعه الروائي، فقد كانت عبقرية محفوظ عبقرية روائية قبل أن تكون قصصية، ولو لم يكتب محفوظ الا القصص القصيرة لاحتل مكانا مرموقا في الأدب العربي، لكن روائعه الروائية هي التي رفعته الي مصاف عباقرة الرواية في العالم، وقد أصبحت بعض رواياته، وفي مقدمتها االثلاثية«، من كلاسيكيات الأدب الروائي العالمي. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن إبداعات يوسف إدريس في القصة القصيرة والتي رفعته لمصاف عباقرة الفن القصصي، بينما تحتل رواياته مكانا أقل، حتي لا تكاد تذكر اليوم، بل لقد نسيت حتي حال حياته، فباستثناء االحرامب التي تعتبر من أهم روايات حقبة الستينيات، فمن منا يقرأ الآن (أو يتذكر) روايات االسيدة فييناب أو االبيضاءب أو ارجال وثيرانب أو انيويوركب؟ أما مجموعاته القصصية فستظل علامة مميزة في تاريخ الأدب العربي، ولا نستطيع أن تنؤرخ للأدب العربي دون أن نفرد مكانا واسعا ل اأرخص ليليب وبحادثة شرفب وببيت من لحمب وبآخر الدنياب وبقاع المدينةب وبلغة الآي آيب؟ ان هذا التشابه والتقابل بين يوسف ادريس ونجيب محفوظ هو الذي كثيرا ما وضع الكاتبين موضع المقارنة، رغم أنني أزعم أن ذلك الخاطر لم يرد علي بال محفوظ من قريب أو بعيد، لكن كان هناك دائما من كانوا يؤججونه اعتمادا علي طبيعة يوسف إدريس الانفعالية، ولم تكن واقعة فوز محفوظ بجائزة نوبل الا مثالا صارخا لذلك، والحقيقة أن يوسف ادريس رشح للجائزة أكثر من مرة لكن نية لجنة نوبل لم تكن قد انعقدت بعد علي ضرورة منحها لكاتب عربي، أما في عام 1988 فقد أوعز له البعض أنه الفائز المؤكد بالجائزة هذه المرة، وأنا أعلم أن سرية مداولات الجائزة حديدية لا يمكن اختراقها بأي حال من الأحوال، ولم يحدث في الماضي أن اخترقت بحيث عرف مسبقا من الذي سيفوز بها، بل العكس هو الصحيح، ففي معظم السنوات يجيء الفائز كمفاجأة لم يكن أحد يتوقعها. لذلك فحين فوجئ يوسف ادريس - وفوجئ معه العالم كله - بفوز نجيب محفوظ كان من الطبيعي أن يتصور يوسف إدريس أن هذا التغيير في القرار له أسباب سياسية تتعلق بموقف يوسف ادريس المعارض لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وقد نقل عن يوسف ادريس هذا المعني ووجدت فيه الصحف وأجهزة الإعلام العربية بغيتها فضخمت من ملاحظات عابرة يمكن أن يكون قد أبداها يوسف ادريس حول هذا الموضوع، وتحول فوز أول أديب عربي بأرفع الجوائز العربية في العالم إلي سجال ومفاضلة بين الكاتبين لم يشارك فيها أي منهما، وقد كنت في مكتب نجيب محفوظ حين اتصل به يوسف ادريس ليقول له: االكلام اللي سمعته ده يا أستاذ نجيب أنا ما قلتوش«، فرد عليه محفوظ: اوأنا ماسمعتوش«، وانتهي الموضوع بين الكاتبين الصديقين، وان ظلت الصحف تعيد وتزيد في هذا الموضوع الي حد الملل. أما في المسرح فقد بدأ يوسف ادريس تقليديا في اجمهورية فرحاتب وبملك القطنب الا أنه سرعان ما قفز في مسرحية االفرافيرب الي أبعاد جديدة علي المسرح المصري من حيث الشكل والمضمون، في محاولة لاستلهام قالب جديد للمسرح كتب عنه بعد ذلك باستفاضة. ت علي أن يوسف ادريس لم يكن كاتبا فقط وانما كان شخصية ثقافية فاعلة في المجتمع، كان يوسف ادريس من نوعية المثقف المندمج في الحياة العامة، والمشتبك مع أهم القضايا التي يواجهها وطنه، وهكذا وجدناه عام 1961 يسافر الي الجزائر لينضم الي المقاتلين من أجل تحقيق الاستقلال، وقد أصيب هناك، كما تم منحه وسام الاستحقاق الجزائري. لقد كان من نوعية الأدباء المقاتلين الذين لا نعرفهم كثيرا في الوطن العربي، والذين يعتبر رمزهم الأكبر الكاتب الأمريكي ارنست همنجواي الذي سافر الي أسبانيا وشارك تفي الحرب الأهلية هناك، كما وجدنا يوسف إدريس من أكثر المهمومين بالقضية الفلسطينية، وقد رشح نفسه أيضا نقيبا للصحفيين مرتين، الاولي ضد يوسف السباعي عام 1978، والثانية ضد صلاح جلال عام 1981. ولقد كان يوسف ادريس من أوائل من نبهوا الي خطر الإسلام السياسي، ولدينا في متحف الكتاب المقام في مبني اتحاد الكتاب بالقلعة، مقال بخط يد يوسف ادريس حول هذا الموضوع سبق عصره بسنوات. لقد كان يوسف ادريس يمثل نوعية خاصة من الكتاب أصبحنا نفتقدها أكثر من أي وقت مضي، ولقد مرت ذكري ميلاده منذ أيام مثل بقية أيام السنة دون أن يتذكره أحد، فيما عدا بضعة مقالات تذكارية تعد علي أصابع اليد الواحدة، وفي أول أغسطس، ذلك الشهر الذي رحل محفوظ في نهايته، تحل ذكري مرور ربع قرن علي رحيله، فهل تمر مثل ذكري ميلاده؟ لمزيد من مقالات محمد سلماوي