محارب من زمن الأساطير، قلب صنديد وروح عاشق، يهيم فى الأرض بحثا عن الحق والعدل، على أمل أن يحمل أزهارهما إلى محبوبته، عزيمته سيف فى وجه اليأس ومواقفه فولاذية أمام التخاذل والانكفاء، شموخ الهامة وبشاشة الوجه البشوش والعينان المتقدتان بالذكاء تمنحك شعورا بأنك أمام «شجرة سنديان» راسخة، مهما تكسرت جذوعها تظل عصية على الانحناء، حديثه مزيج لغات كأنه من «بابل الأولى»، وإذا جرت العربية على لسانه صادفتك لهجات كل بلادها، قضى عمره التسعينى، متجولا مدافعا عن أمته وقضيته (قضيتنا) الأولى، فلسطين الحبيسة، فى المحافل والدروب السياسية والصحفية والأكاديمية والثقافية، وبرغم كل الإغراءات الصهيونية -الأمريكية أبى أن «ينخ» أو يتزحزح عن مبادئه، إنه الدكتور كلوفيس مقصود «شيخ العروبة»، كما لقبه جمال عبدالناصر، أو «سنوحى القضية الفلسطينية» التى عاش لها حتى قتلته، ليغادر دنيانا 15 مايو الحالى، فى اليوم نفسه الذى شهد تقسيم فلسطين عام 1947 وبدء النكبة، ليلقى وجه ربه فى العاصمة الأمريكية، ملفوفا فى «علم فلسطين»، وهو فى التسعين من العمر..! وعى كلوفيس مقصود مبكرا مدلول ما قاله «نزار قبانى»، عن أسباب هزائم العرب وتشتتهم: «إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ ..لأننا ندخُلها بكل ما يملك الشرقى من مواهب الخطابة.. بالعنترياتِ التى ما قتلت ذبابة..لأننا ندخلها بمنطقِ الطبلةِ والربابة .. السر فى مأساتنا، صراخنا أضخمُ من أصواتنا وسيفُنا أطولُ من قاماتنا..»، لذا تسلح الرجل بكل عتاد ممكن ومتاح ليخوض معركته حتى آخر نفس فى صدره، فكان كلوفيس مقصود اللبنانى المارونى المولود بأمريكا، مفكرا قوميا كبيرا وسفيرا سابقا للجامعة العربية فى الهند وفى الأممالمتحدة، عروبيا حتى النخاع، درس القانون والعلاقات الدولية وعمل صحفيا بالأهرام فى الفترة 1967-1974، ثم فى عدة صحف غيرها، وأستاذا جامعيا، وفى كل الأحوال ظلت قضايا الأمة العربية شغله الشاغل ومحور تفكيره الأثير، مؤمنا بهوية الأمة وعروبتها ووحدتها، وبدورها الحضارى فى مسيرة الإنسانية، عقب الحرب الباردة أسس مركز دراسات عالم الجنوب فى الجامعة الأمريكية بواشنطن، وليس هذا غريبا على الرجل الذى صادق الزعيم الهندى نهرو، واستعار منه مفهوم «الحياد الإيجابى»، فصار ركنا، فى السياسة الناصرية والعالمثالثية فى الخمسينيات والستينيات. لكن البعض يأخذ على كلوفيس أنه «رجل تناقضات»، يدللون على ذلك باستقالته الشهيرة من الجامعة العربية، عام 1990، احتجاجا على مساعى الاستعانة بقوات أجنبية -أمريكية –بريطانية بالأساس- لإخراج صدام حسين من الكويت، لكن الرجل كان متسقا مع ذاته، بصرف النظر عن رأينا فى سلوكه هذا. كما أنه كان مؤمناً بالطاقات فى العالم العربى وتحمس لثورات الربيع العربى فى البداية، لاعتقاده أنها ستؤدى إلى نتيجة، لكن أمله خاب، أصابه الإحباط من النتائج التى أسفرت عنها الثورات، خاصة بظهور النتوءات والتى كان يقصد بها الدواعش والتيارات المتطرفة والإرهابية. ومثل رفيق غربته المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد، آمن الدكتور مقصود ب»مسلمة أساسية» رآها العنصر الأهم فى تاريخ منطقتنا، خلاصتها: إن البشر الذين يتكلمون العربية وينتمون الى الثقافة العربية، على تنوعهم وتعددهم شكلا ومضمونا، هم عرب ومسلمون، ويشكلون أمة وليس مجموعة من الدول المتناثرة بين شمال إفريقيا وحدود ايرانالغربية. وقد تعرضت كل محاولة للتعبير عن هذه المسلّمة الى الهجوم، كما فى حرب السويس فى 1956 والحرب الكولونيالية الفرنسية على الجزائر، وحرب الاحتلال والسلب الإسرائيلية، والحملة على العراق التى كان هدفها المعلن تغيير النظام هناك، فيما كان الهدف الحقيقى تدمير البلد العربى الأقوى. ومثلما كانت حملة فرنسا وبريطانيا وإسرائيل وأمريكا على عبد الناصر تهدف الى تحطيم قوة أعلنت صراحة عن طموحها الى توحيد العرب، ليشكلوا كتلة سياسية مستقلة وقوية، فالهدف الأمريكى اليوم هو إعادة رسم خريطة العالم العربى بما يلائم المصالح الأمريكية وليس العربية. إنها سياسة تقوم على ما تراه أمريكا من تشرذم العرب وعجزهم الجماعى وضعفهم العسكرى والسياسي. ورأى «مقصود» أن مصر هى «الوحيدة» المهيأة لقيادة الأمة، داعيا للالتفاف حولها ومساعدتها اقتصاديا، لتتجاوز عثراتها، محذرا من «العقيدة الاستراتيجية» للقوى الكبرى المحيطة بالمنطقة –غربا وشرقا- هى «منع ظهور أى قوة إقليمية تستطيع أن تجمع المنطقة حولها»، لإفشال أى محاولة -بغض النظر عن حجمها- لنهوض العالم العربى تحت أى شعار، أكان هذا الشعار دينياً، أو قومياً، أو رأسمالياً، أو اشتراكياً، وكذلك إجهاض الأيديولوجيات العربية المختلفة، وكأنها هى المسئولة الأولى عن تسيير السياسات فى بلادنا. وفى هذا جزء كبير من تفسير الأسباب الخارجية لفشل التجارب النهضوية، من محمد على باشا إلى جمال عبد الناصر إلى تجارب أخرى أدنى كعبا وأقل جدية، ومن ثم التقهقر أمام إسرائيل. كلوفيس مقصود هو المناضل المفرد، لغة وسلوكا، ووعيا وتحسسا بروح الأمة، لا ولاء لزعيم أو قائد، سعى لأن يعيش ويموت فى عصر تحرير القدسالمحتلة، لا فى يوم النكبة. لكن الرجل الذى عاش النكبة بسنواتها الطوال مات فى ذكراها، بعد أن فضح الخطاب الصهيونى-الأمريكى فى عقر داره، وقدم نقدا عقلانيا مؤلما للمركزية الغربية، وحارب التطرف والتخلف والانحطاط العربى، ثم رحل واقفا كأشجار السنديان. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن