القاعدة أن الجديد يولد من القديم، أما المشكلة المعضلة فهى إذا كان القديم أكثر أصالة وتجددا وفهما وقدرة على المواجهة من الجديد! علمنى صديقى كامل زهيرى أن هناك من يوظفون الأجيال مثلما كان هناك من وظف الأموال، ولذلك فلست من المشايعين لفكرة صراع الأجيال، فرب جيل كتب عن «مستقبل الثقافة» وعن مشاكل المشهد المصرى «من بعيد» عند مطلع القرن الفائت، وجاء ما كتبه أكثر وعيا وفهما وتجددا من معظم ما جاء بعده، وهنا أتحدث عن طه حسين مثلا! لقد تلقيت نبأ رحيل المفكر والصحفى والدبلوماسى العربى كلوفيس مقصود عن عمر ناهز التسعين عاما، ودفن فى الولاياتالمتحدة، وأشهد مع كثيرين أهم منى وأكثر دراية وثقافة، أن كلوفيس انتسب لشريحة - وليس جيلا - من المثقفين العرب الذين اعتقدوا فى القومية العربية والوحدة، وشغفوا جديا بدور مصر الجوهرى والمحورى فى التكوين العربى على مر حقب التاريخ، الذى هو ماضٍ وحاضر ومستقبل. التقيت الراحل لأول مرة منذ أكثر من ثلاثين عاما فى الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، بعد أن كنت أقرأ ما يكتبه وأعجب لاسمه الذى لم أستطع نطقه فى البداية عندما كان يكتب فى الأهرام من 1967 إلى 1974.. ثم توطدت العلاقة عبر الأعوام، وكنا نلتقى مرة على الأقل كل سنة فى المؤتمر السنوى لدار الخليج للصحافة، وذات مرة تصادف أن تجاورنا على مقاعد الطائرة من مصر إلى الولاياتالمتحدة، وفى الساعات الطوال انفتحت نوافذ أطللنا منها على مساراتنا الفكرية والسياسية بل والعاطفية، وعرفت - حتى صرت مشدوها - مدى تأججه العاطفى وأمله وحلمه فى أن يقترن بإنسانة أعرفها، بعد وفاة زوجته هالة سلام. بالعمر والمرحلة ينتمى كلوفيس مقصود إلى القديم القومى العروبى ذى التوجه الاشتراكي، وبالحقيقة كان كلوفيس - وبقى إلى أن رحل - مفكرا إنسانيا عريقا فى ثقافته، مطلعا على كل جديد، ذا عقلية ناقدة واعية، نفذت إلى صميم الثقافة العالمية بتنوعاتها الثرية من الهند شرقا إلى الولاياتالمتحدة وأوروبا غربا، وعرف - دون عقد نفسية أو حساسية دونية ولا استعلاء شوفيني - المفاصل الضعيفة فى الوعى والمسلك الأوروبى والأمريكى تجاه قضايا أمته، وبدلا من أن يستسلم ويتوحد بالمعتدى الذى يعيش فى كنفه عقودا، أو أن ينسحب إلى قوقعة الاستعلاء؛ الأجوف انغمس فى الحوار واشتبك إيجابيا بالفكر والمحاضرات وإنشاء المراكز البحثية لترشيد الأداء على الناحيتين، وكان أن أنشأ مركز الجنوب بالجامعة الأمريكية بواشنطن. ولقد تلقيت على بريدى الإلكترونى رسالة حولها لى السيد سامى شرف كتبها الدكتور يحيى الشاعر عن قطوف من حياة كلوفيس، وأعدت نشرها على الفيس بوك، وأستقى منها فى هذا المقال بعض الفقرات نصا أو مضمونا.. وهذا من باب الأمانة الصحفية التى لا تنفصل عن مثيلتها العلمية. فكلوفيس مسيحى مارونى من أم أرثوذكسية ونشأ فى بيئة درزية وتزوج مسلمة سنية، وفى الوقت نفسه ينتمى للفكر القومى التقدمى وانتسب فى فترة من حياته إلى الحزب التقدمى الاشتراكى بقيادة كمال جنبلاط، صديقه الذى لم تمنع الصداقة ولا العمل السياسى تحت قيادته من الاختلاف معه، عندما رأى جنبلاط فى قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس خطوة متسرعة، بينما رأى كلوفيس أنها خطوة هائلة فى النضال المصرى والعربى ضد الاستعمار! وهذا التكوين «الكلوفيسي» إذا جازت النسبة يذكرنى بصديق آخر هو الكاتب والمفكر إلياس سحاب الشقيق الأكبر لسليم المايسترو ولفكتور وسمير، حيث الأصل الفلسطينى والجنسية والحياة اللبنانية والمذهب المارونى والانتماء القومى الناصرى والاهتمام لدرجة الدراسة والتخصص للموسيقى العربية! تعرف كلوفيس على مؤسسى البعث ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني، حيث كان الأولان يرتادان مقهى مسعود فى باب إدريس وكان الحورانى يرتاد باتسيرى سويس مقابل الكاتدرائية الكبوشية فى باب إدريس أيضا، وأراد كلوفيس أن ينتقل من الحزب الاشتراكى إلى حزب البعث، فنصحه عفلق والبيطار أن يبقى فى التقدمى الاشتراكى بقيادة جنبلاط لتعميق انتمائه العربي، وبعدها ترك كلوفيس التقدمى الاشتراكى ولم يلتحق بالبعث وصار من أشد وأبرز مؤيدى ومناصرى الرئيس جمال عبد الناصر، وهنا يروى الدكتور يحيى الشاعر بعضا من المواقف بين المفكر وبين الرئيس، إذ كتب الأول خطاب احتجاج ضد اعتقالات الإخوان المسلمين فى مصر فى الخمسينيات ثم فوجئ بدعوة من الوزير كمال رفعت الذى كان يترأس مجلس إدارة أخبار اليوم لزيارة مصر، ووجد نفسه بصحبة كمال رفعت أحد أبرز الضباط الأحرار وقائد المقاومة الشعبية المسلحة ضد القاعدة البريطانية قبل وأثناء مفاوضات الجلاء، فى زيارة لمنزل الرئيس عبد الناصر بمنشية البكري، وهنا قال له الرئيس: «حضرتك عامل شيخ عروبة واسمك كلافيس.. ما تغير اسمك يا خويا»، فرد كلوفيس: «يا سيادة الرئيس اقترح لى اسما بديلا»، فقال الرئيس: «قحطان مثلا»، ويرد كلوفيس بلهجته اللبنانية وقدرته الرائعة على القفشة: «ما فى عندك شى اسم بين بين»! وعلى ذكر حكاية الاسم سمعت وغيرى مرات عديدة القصة الطريفة التى دارت بين كلوفيس والشاعر العربى السورى عمر أبى ريشة الذى كان سفيرا لبلاده فى الهند، وذهب لاستقبال كلوفيس فى مطار دلهى عندما عين الأخير سفيرا للجامعة العربية هناك.. يحكى كلوفيس أن الأستاذ عمر أخذه بالسيارة وانطلقا فى جولة فى دلهى وهو يوطن نفسه أنه سيسمع قصائد الشاعر الذى تربى على قصائده وإذا بالسفير يتوقف أمام منطقة سكنية محاطة بسور «كومبوند»، ويدخل متقدما كلوفيس ليصل إلى مجلس يجلس فيه رجل هندى أقرب إلى هيئة المهراجا، وتقدم عمر أبو ريشة متحدثا بصوت مجلجل: «يا سمو الأمير يشرفنى أن أقدم لك ولأتباعك المسلمين الهنود السفير الدكتور محمد كلوفيس الدين مقصود ممثل الجامعة العربية بالهند! ويستكمل كلوفيس: «عندها ارتجفت رعبا وتفككت مفاصلي، وفور أن انصرفنا عاتبت السفير عمر: «هيك أستاذ عمر.. شو كان يحصل لى لو أدرك هؤلاء الناس أننى مسيحى وأنتحل اسم النبى محمد»؟! ويرد عمر أبو ريشة مغتاظا: «شو أخو كذا، ألم تجد الجامعة العربية سواك مسيحيا مارونيا لترسله ليهتم بالمسلمين فى الهند»! ولد كلوفيس فى مدينة برستو بولاية أوكلاهوما الأمريكية فى 17/02/1926 وأخذ اسمه من قديس مسيحى كاثوليكي، وبالمناسبة اكتشفت فى أثناء تنقيبى فى تاريخ بلاد الغال الرومانية عن نشأة فرنسا أن الذى غزا بلاد الغال وغير اسمها إلى اسم قبيلته الجرمانية الأصل «الفرانكس» هو الملك كلوفيس الأول.. وفى هذا قصة سبق أن كتبتها معتمدا على أحداث تاريخية حقيقية، وتزوج كلوفيس من هالة سلام سليلة آل سلام اللبنانية عام 1974، ومعلوم أن آل سلام من نخبة النخبة الإسلامية السنية. ومن طرائف كلوفيس أيضا واقعته مع أم كلثوم عندما زارته فى منزله بالقاهرة وقد اصطحبها إليه صديقهما إحسان عبد القدوس إذ قالت الست: «تشرفنا يا سى كلوفيس.. ده اسمك الفنى أمال اسمك الحقيقى إيه»؟! وأيضا عندما كان فى زيارة مسلمى ميانمار فى بورما وسأله سلطانهم: من أى القبائل العربية أنت؟!» فأجاب كلوفيس بسرعة بديهة «من قبيلة بنى مقصود»! رحل كلوفيس ولم يهزمه الموت كما لم تهزمه- مع صديقه الذى استكتبه للأهرام محمد حسنين هيكل - النكسة ولا مخططات التفتيت والحروب الأهلية.. واصل هيكل وكلوفيس ومن هم من التركيبة نفسها أكثر أصالة وإبداعا وتقدما ومواكبة لكل ما هو جديد من كثيرين أقل عمرا سحقهم الإحساس بالدونية فتوحدوا بالرأسمال الغربى المتوحش ورهنوا خلاص أوطانهم على مزيد من الاستسلام له. لمزيد من مقالات أحمد الجمال