لم يكن ممكنا ل"صديق الجميع" و"خطيب القضية العربية" كلوفيس مقصود ان يرحل دون ان تتزاحم كلمات النعي على توديع المفكر والدبلوماسي والصحفي اللامع والاستاذ توديعا يليق بمقامه. وتوفي مقصود الأحد، عن عمر ناهز التسعين عاما في واشنطن بعد نحو أسبوعين من إصابته بنزيف دموي في الدماغ بعد مسيرة طويلة من العطاء. ونعت شخصيات سياسية وثقافية عربية الدبلوماسي والسياسي الراحل واصفة اياه ب"ناسك العروبة" و"فارس الدبلوماسية العربية" و"نموذج الشخصية العروبية الصلبة التي لا تعوض". وقال رئيس مجلس الوزراء اللبناني تمام سلام في بيان "فجعنا بغياب الدكتور كلوفيس مقصود ناسك العروبة الأبرز والقامة الفكرية والسياسية والاعلامية والديبلوماسية الرفيعة التي حملت قضايا العرب إلى كل اصقاع الأرض". وأضاف "كان إسما مضيئا في الفكر السياسي وعلما من أعلام الديبلوماسية العربية التي نذرت كل جهودها من أجل قضية العرب الأولى فلسطين وحقوق شعبها في حياة كريمة على أرض دولته المستقلة، وترسيخ مكانتها في وجدان الأمة. وقد عمل من مواقعه المختلفة، وبخاصة لدى تمثيله جامعة الدول العربية في الأممالمتحدة، على توظيف الشرعية الدولية في خدمة قضايا الشعوب العربية، وسعى دائما الى تأمين سبل التوافق العربي في المحفل الدولي". "رحم الله الصديق كلوفيس مقصود، اللبناني الميثاقي والعروبي المتنور، صاحب الشخصية الوادعة والروح السمحة واللباقة الفكرية والقلم المضيء". من جانبه نعى الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور نبيل العربي الدبلوماسي والسياسي والمفكر والكاتب العربي قائلا "برحيل الصديق الدكتور كلوفيس مقصود يفتقد العالم العربي واحدًا من كبار رجالاته، وفارسًا من فرسان الدبلوماسية العربية، أمضى حياته مدافعًا عن القضية الفلسطينية والقضايا العربية في المحافل السياسية والأكاديمية العربية والدولية، خطيباً مفوهاً، ومفكرًا مبدعًا، وكاتبًا حرًا مميزًا، حاملًا للواء العروبة وهمومها الحضارية والثقافية في ساحات العمل السياسي والدبلوماسي ومنابر الصحافة والإعلام". وعلى تويتر رثي وزير خارجية الإمارات والتعاون الدولي عبد الله بن زايد آل نهيان الراحل بتغريدية قال فيها "تشرفت بالتعرف إلى الأستاذ كلوفيس مقصود قبل 30 سنة.. كان يأمل في مستقبل عربي أكثر إشراقاً.. سوف نُبقي الأمل وفاءً له وحباً لأمتنا". واعربت عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية د.حنان عشراوي عن ألمها الشديد لفقدانها صديقا عزيزا ربطته بها علاقة صداقة قوية وحميمة منذ عقود طويلة وأضافت "لقد آمن مقصود بعدالة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر عربية وقوميه وعمل بكل ما اوتي من قوة منذ ريعان شبابه بشكل جريء ومبدئي على ترسيخها بالفكر والذات العربية والعالمية". وقال حبيب الصايغ الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في بيان صدر الاثنين إن رحيل كلوفيس مقصود خسارة لا تعوض لاسيما في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها أمتنا العربية حيث تبدو الحاجة إلى شخصيات بموضوعية مقصود وحسه القومي العميق ورؤاه الثاقبة ماسة وملحة أكثر من أي وقت مضى. وأضاف الصايغ إن مقصود كان نموذج الشخصية العروبية الصلبة التي تجمع بين الإيمان الثابت الراسخ والأداة المنهجية الواضحة والمرونة الفكرية وكانت هذه عوامل ساهمت في إبراز شخصيته والدفع بها لتكون مؤثرة على نحو بالغ لا في مرحلتها فقط بل في المراحل التالية أيضا. ولفت إلى أن إيمان كلوفيس مقصود بعدالة القضايا العربية لاسيما قضية فلسطين كان عنوانا كبيرا في سيرة نضاله الغنية وهو واحد ممن كان لهم دور ملموس في إيصال هذه القضايا إلى العالم عبر كتاباته ومن خلال مواقع المسؤولية التي شغلها. وأكد الصايغ ضرورة الالتفات إلى الإرث الفكري للراحل وإعادة جمعه ووضعه في متناول الأجيال الجديدة وفاء له من جهة وتنويرا لهذه الأجيال من جهة أخرى ففكر كلوفيس مقصود بتوازنه وموضوعيته وعمقه يصلح لأن يكون أداة فعالة في مواجهة ما نعيشه اليوم من تيارات ظلامية متعصبة تهدد مستقبل أمتنا ووجودها برمته. مسيرة حافلة بتجارب رائدة وشغل مقصود، الملقب ب"خطيب القضيّة العربيّة"، عدّة مناصب أبرزها سفير جامعة الدول العربية في الهند ثم في واشنطنوالأممالمتحدة منذ عام 1979 حتى استقالته من منصبه في نفس العام الذي غزا فيه العراقالكويت. وامتهن مقصود الصحافة لفترة طويلة حتى تولى منصب كبير محرّري صحيفة الأهرام المصريّة ورئيس تحرير صحيفة النهار الأسبوعية. وسلك مقصود سلك التدريس الجامعي، حيث حاضر في العديد من الجامعات الأمريكية ، منها الجامعة الأمريكية في واشنطن وكلية واشنطن للحقوق، حتى تقاعده عام 2011، وشارك في العديد من محافل الأممالمتحدة الدولية في بكين وكوبنهاجن والقاهرة وإسطنبول. وساهم الدكتور مقصود في إثراء صحيفة "الخليج" على مدار سنوات، بفكره القومي الوحدي من خلال مقالة أسبوعية، يناقش فيها قضايا الأمة ومشاكلها ومحنها بموضوعية واتزان، ويحلل فيها بعقل العارف القادر على استكشاف مكامن الخلل والصواب. وألف الراحل عدة كتب في السياسة والاجتماع منها: "معنى عدم الانحياز"، "أزمة اليسار العربي" و"افكار حول الشؤون الأفروآسيوية" و"صورة العرب". ومقصود لبناني الجنسية، وكان يتمتع بعلاقات قوية وطيبة مع كافة المفكرين والمثقفين العرب في الولاياتالمتحدة، وكان دائم الحضور في الندوات واللقاءات العربية، آخرها لقاءه بمركز الحوار العربي في فيرجينيا في الخامس من مايو/ايار قبل أن يصاب بنزيف حاد دخل على إثره المستشفى. وكان آخر كتاب صدر للدكتور كلوفيس مقصود "من زوايا الذاكرة رحلة في محطات قطار العروبة" عام 2014، وهو عبارة عن مذكرات قسمها إلى مراحل في حياته من لبنان إلى مصر فالهندفالولاياتالمتحدة فالاستقالة من العمل السياسي والتفرغ للتدريس والكتابة والمحاضرات. وخصص مقصود كتابه الأخير لإضاءة شعلة أمل وسط الخراب الذي يعم الوطن العربي، فهو يرى أننا لا يجب أن نفقد الأمل، فحتى تستقيم المعادلة علينا ان نسترجع البوصلة من خلال عودة القضية الفلسطينية كبوصلة وقضية مركزية تتجاوز كل النتوءات وتوحد الجماهير. ويقول إنه ومنذ عام 1948 وإلى اليوم هناك إجماع على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وأن يكون لهم كيانهم المستقل الذي يتمتع بالسيادة ويجب أن تستعيد القضية الفلسطينية قدرتها على الإلهام من خلال إسترجاع وحدة المرجعية الفلسطينية أولا وغلق باب الانقسام ومن خلال إسترجاع مصر لدورها التاريخي وأن يكون لدينا القدرة على إنقاذ اليمن من محنته الحالية التي تمثل أعلى مراحل الاستقطاب في العالم الإسلامي. كما ويتضمن كتابه آراءه الخاصة في الانقسامات التي تعاني منها المجتمعات العربية، فهو يرى أن الأوضاع الإنسانية في اليمن وسوريا والعراق والسودان كلها خطيرة، ويأمل في إستعادة البوصلة ووحدة الجماهير العربية إن لم يكن في خلال سنة أو سنتين فعلى الأقل في الخمس سنوات المقبلة. ويقول "يجب العودة إلى عقلنة الأمة العربية سياسيا واقتصاديا، نحن أمة غنية وشعوب فقيرة، هذا هو المطلوب معالجته بشكل واضح كي يسترجع الفرد العربي كرامته وكي تستعيد المرجعية الأخلاقية في وجودنا وسياساتنا، وهذا ممكن". وبرحيل كلوفيس مقصود يُطوى علم كبير من أعلام النصف الثاني من القرن المنصرم، ظل خفاقاً في العالم كله ولا سيما في أميركا فمن الصعب اليوم العثور على مثيل لكلوفيس مقصود في علمه وثقافته وقوة حججه وظرفه إنه خسارة لا تعوّض.