أنا الذي أتبنى كلا من انتماءاتي بأعلى صوتي لا أستطيع الامتناع عن الحلم بيوم تسلك فيه المنطقة التي ولدت فيها الطريق ذاته، تاركا خلفها زمن القبائل وزمن الحروب المقدسة وزمن الهويات القاتلة لكى تبني شيئا مشتركا، أحلم بيوم أستطيع فيه أن أنادي الشرق الأوسط بمثل ما أدعو لبنان وفرنسا وأوروبا "بلدي". وكل أبنائه مسلمين ويهودا ومسيحيين من كل المذاهب وكل الأصول، مواطني. تلك هي الحال في رأسي الذي يتأمل ويتوقع باستمرار، ولكني أود أن يصبح الأمر كذلك يوما ما على أرض الواقع وللجميع" بهذه الكلمات عبر الأديب اللبناني الفرنسي أمين معلوف عن حلمه وحلمنا القديم الجديد. وكتابه "الهويات القاتلة" يتضمن شهادته من خلال قراءاته في الهوية والانتماء والعولمة. ................. ولا شك أن الهوية والانتماء في زمن العولمة .. بأشكالها المتعددة وصداماتها المتجددة صارت ملمحا أساسيا وربما مصيريا في حياتنا اليومية أينما كنا وأينما ذهبنا. كما أن متابعاتنا لما يحدث في المنطقة وأيضا مخاوفنا مما قد يحدث في الأيام المقبلة تزيد بلا شك من قلق النفوس وبالتأكيد تربك عناء العقول وتعمق وجع القلوب. وهذه الأمور تزداد حدة عندما ننتبه الى ما تعلمناه أو ما نتعلمه حتى الآن (اذا أردنا) من دروس التاريخ المتكررة والمؤلمة وأيضا من خطوط الجغرافيا المتهالكة والمنتهكة عبر العقود. حديث هذه الأيام عن مئوية "سايكس بيكو" واحتمالات خطوط جديدة تقسم الدول القائمة.. هو بلا شك حديث المنكسر والحائر وأيضا حديث الغاضب والثائر. لذلك لا يمكن الالتفاتة الى "كلوفيس مقصود" ورحيله دون الالتفاتة الى الأجواء الذي عاش فيه وبها هذا العربي وأيضا عانى منها هذا العروبي."شيخ العروبة" وصف اشتهر به هذا اللبناني. وعندما التقى به الزعيم جمال عبد الناصر بمنزله في نهاية الخمسينيات قال له ناصر مازحا: "هو حضرتك عايز تعمل نفسك شيخ عروبة واسمك كولوفيس؟"كما أن "كلوفيس مقصود" عندما التقى ولأول مرة بسيدة الغناء العربي أم كلثوم قالت له "الست" "تشرفنا كلوفيس .. ده اسمك الفني. واسمك الحقيقي ايه؟". وقد ولد "كلوفيس مقصود" يوم 17 ديسمبر سنة 1926 في مدينة برستو بولاية أوكلاهوما الأمريكية. وكان والداه فريد مقصود وماري حنا قد هاجرا قبل عام الى الولاياتالمتحدة. وحين بلغ الثالث من عمره رجع مع والدته الى لبنان "حيث نشأت وترعرعت في بلدة الشويفات" كما يكتب كلوفيس مذكراته التي صدرت عام 2014 بعنوان "من زوايا الذاكرة محطات رحلة في قطار العروبة". وقد أهدى الكتاب: "الى الأم الحاضنة والموجهة "ماري حنا مقصود".. يأتي هذا الكتاب كهدية لذكرى والدتي ماري حنا مقصود. في كنفها تكونت بواكير قناعاتي العروبية. فهي التي ألهمتني بها في سنوات العمر المبكرة، منها تشربت هذه الروح وأخذت الخميرة التي شكلت اللبنات الأولى لالتزامي القومي العربي. وبذلك هي معلمتي القومية الأولى". عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية كتب في تقديمه للكتاب: " يأتي كتاب كلوفيس مقصود ليتيح لنا، والأهم أنه يتيح للأجيال الجديدة الاطلاع على صفحات من حركة التاريخ العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي حركة أدت سلبياتها الكثيرة وأخطاؤها الضخمة الى اضطراب كبير في حياة العرب، وبالتالي الى الثورات المتتالية التي تستهدف مسارا جديدا هو بالقطع رافض لممارسات السياسة العربية التي عرضها لهم كلوفيس مقصود والذي كان بفكره وشخصه ناقدا لها، معارضا للكثير من تعريجاتها ، ساخرا من تصرفات عدد من قادتها وزعمائها." وبما أن حياته وأيضا مذكراته تحتوي على محطات نجد أن هذا الدبلوماسي والمفكر والأكاديمي والكاتب كان سفيرا للجامعة العربية في الأممالمتحدةوواشنطن في الفترة ما بين 1979 و1990. كما أن محطته في مصر تتضمن السنوات ما بين 1966 و1973. وقبلها كانت الهند بتجربتها الوطنية المميزة وتجربة كلوفيس الخاصة العالقة في الأذهان مع الزعماء نهرو وأنديرا غاندي. في مصر أستأجر كلوفيس شقة في الزمالك في شارع الجزيرة كانت ملكا للكاتب السوريالي جورج حنين ساعده في ذلك مجدي وهبة. وهذه الشقة بما أنها "كانت واسعة جدا" تحولت الى مقر للقاءات واجتماعات استضافت العديد من السياسيين والكتاب والفنانين. يذكر منهم أحمد بهاء الدين واحسان عبد القدوس ولطفي الخولي وأم كلثوم وفاتن حمامة وأيضا الممثلة الايطالية جينا لولو بريجيدا والمخرج الايطالي روبرتو روسيلليني.وفي القاهرة طرح الأستاذ محمد حسنين هيكل عليه فكرة العمل معه مع مؤسسة الأهرام. كان ذلك في مطلع عام 1967 وكان الأستاذ في زيارة لمكتب كلوفيس بمقر الجامعة العربية. وصفحات كتابه تحتوي علي بعض من تفاصيل عمله مع الأهرام وعلاقته الوطيدة مع الأستاذ هيكل. واهتمامه تحديدا باقامة مركز للأبحاث يقدم الدراسات والأفكار لصناع القرار في كافة المجالات. في القاهرة أيضا كان لقاء التعرف الى هالة واعجابه بها عام 1972. هالة التي صارت فيما بعد زوجته وشريكة حياته وزميلة نضالهما معا من أجل القضايا العربية والفلسطينية وحقوق العرب الأمريكان. وكما يكتب الكاتب الكبير سمير عطا الله : "عندما اتفق مع هالة سلام على الزواج، اعترضت والدتها، ابنة عبد الحميد كرامي، على الزواج من غير مسلم، فكان دفاع والدها مالك سلام، أن في كلوفيس من العروبة ما يعفيه. عروبة كلوفيس مقصود،مثل عروبة أمين الريحاني، مثل عروبة فارس الخوري، مثل عروبة مكرم عبيد، كان فيها شيء من النسك وشيء من التبشير. لم يسخِّرها في عزها ولم يسخر منها في تهاويها وما آلت إليه في أزقة بيروت وعلى أرصفة العرب".. "لم يغير كلوفيس مقصود اسمه ولم يعرِّبه، لكنه مضى في العمر شيخاً من شيوخ العروبة، ووجهاً لامعاً من وجوهها" منذ أيام رحل عنا "كلوفيس مقصود" أو وصل الى محطته الأخيرة .. وكتب طلال سلمان في "السفير": "لم تكن مصادفة أن «يؤجل»، كلوفيس مقصود رحيله، في مغتربه الاختياري الجامعي في واشنطن، بعيداً عن لبنان بأثقال الخيبة فيه، أياماً، حتى تجيء متزامنة مع الذكرى المئوية لمعاهدة سايكس بيكو التي قسمت بلادنا بالفتنة تمهيداً للمشروع الإسرائيلي في فلسطين، فاتحاً أمام العرب باب «النكبة» التي تكاد الآن تتكامل فصولاً.لقد اختار موعد رحيله كتظاهرة احتجاج على القصور العربي، بل التقصير، بل ما هو أفظع" وبينما كنا نتحدث نحن من عرفناه وعايشناه عن من كان "كلوفيس" وعن ما كان يعنيه بالنسبة لنا لم يكن بالأمر الغريب أننا اتفقنا بأنه كان "ظاهرة " انسانية فريدة حاضرة في حياتنا.الدكتور فيليب سالم وهو ينعيه منذ أيام كتب: لم يكن صديقي رجلاً تقليدياً. كان المسيحي الذي دافع عن الاسلام ، واللبناني الذي دافع عن العرب.