كانت في السادسة من عمرها عندما مات والدها. واضطرت هي وأمها للعمل. وتمكنت الفتاة بدأب واصرار من دراسة التدبير المنزلي. وهو ما أهلها للإفلات من متاهة الفقر. واستقرت في شقة صغيرة. واشترت سيارة مستعملة. وذات مساء, وبينما كانت الفتاة الألمانية كاترينا في السابعة والعشرين من عمرها, التقت بمحض الصدفة بشاب في حفلة راقصة. وكانت الشرطة تلاحق الشاب بتهم جائرة. وكان الظن انهم علي وشك اعتقاله. لكنه تمكن من الهرب, وبادرت الشرطة بالقاء القبض علي كاترينا والتحقيق معها بتهمة تهريبه. وهرع صحفي في جريدة فضائحية لمتابعة القضية. وكان يتفنن في تلفيق الأخبار حتي تبدو مثيرة. وأهدر القيم الاخلاقية وهو يفتعل قصصا وهمية عن حياة كاترينا. ويصورها علي انها فتاة جامحة. وتسبب في تكدير أمها المريضة, مما عجل بوفاتها. وهاتفت كاترينا الصحفي الفضائحي. ووعدته بحديث صحفي معها في شقتها. فلما حضر أطلقت الرصاص عليه, فأردته قتيلا. وسلمت نفسها للشرطة. واعترفت بالجريمة. وهكذا كان مسار كاترينا ومصيرها في رواية شرف كاترينا يلوم الضائع للروائي الألماني هاينريش بول, الفائز بجائزة نوبل للأدب عام 1972. وكان قد نشر روايته هذه عام 1974, بينما كان يخوض غمار معركة ضارية مع قوي اليمين وصحفها الفضائحية. وهي معركة كانت قد بدأت ابان ثورة الطلبة عام 1968. فقد هاجر الروائي, الذي كان يلقب ب ضمير الشعب, بتأييده للطلبة. ولذلك أصبح هدفا لانتقادات القوي اليمينية. وصارت الانتقادات كأنها طلقات نارية عندما جرؤ في منتصف السبعينيات, وطالب باجراء محاكمة عادلة لجماعة بادر ماينهوف الإرهابية. ودعا إلي ضرورة تفهم الاسباب الموضوعية التي دفعت تلك الجماعة إلي ارتكاب مغامرات يائسة. رواية شرف كاترينا الضائع كانت رد هاينريش بول علي هجمات صحف الاثارة علي مواقفه السياسية. وكان ردا قويا وبليغا. فقد أوضح أن الصحف الصفراء لاتستهدف كشف الحقيقة, وانما تختلق الأخبار المثيرة اختلاقا لزيادة التوزيع. ولا يهم تشويه سمعة الضحايا. وكانت صحيفة الاثارة التي أهدرت شرف كاترينا هي بيلد زايتونج. وكان قد أسسها اكسل شبرنجر قطب الاعلام في ألمانياالغربية عام 1952. وكان من غلاة اليمين, وأشد المناهضين لليسار الديمقراطي. وصارت الصحيفة الأعلي توزيعا بين الصحف الصفراء في أوروبا. وتفوقت علي صحف ميردوخ وامبراطوريته البريطانية في التوغل في ثنايا حياة الشخصيات العامة من أجل نشر فضائحها. وكان هذا يؤرق صحف الاثارة البريطانية. وسعت لاستعادة الزمام من صحيفة بيلد الألمانية. واضطلعت بهذه المهمة الشائنة صحفية بريطانية تدعي ربيكا بروكس. وكانت قد التحقت بامبراطورية ميردوخ عندما كانت في العشرين من عمرها. وتمكنت من أن تصبح رئيسة لتحرير صحيفة أخبار العالم ثم صارت رئيسة لتحرير صن من2003 إلي2009. ولم تكن ربيكا التي تشتهر بلقب سيدة الشعر الأحمر تظن يوما انها سوف تهوي من القمة المشينة للصحافة الفضائحية. وهو ما حدث منذ نحو عام عندما جري الكشف عن تورطها في التنصت والتجسس علي المكالمات التليفونية لآلاف الشخصيات. وتم إلقاء القبض عليها والتحقيق معها ضمن صحفيين آخرين. واضطر ميردوخ إلي اغلاق صحيفة اخبار العالم في يوليو2011. وكشفت التحقيقات عن حقائق مذهلة, وحملت لجنة التحقيق ربيكا المسئولية عن تفشي ثقافة التنصت والتجسس. وتقرر محاكمة ربيكا في13 يونيو المقبل. وهي محاكمة لصحافة الفضائح والاثارة والابتذال. ولا عزاء لسيدة الشعر الأحمر وامبراطورية الثرثرة. وهكذا يثأر الروائي الألماني هاينريش بول لشرف كاترينا الضائع. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي