هل أصبح العالم علي وشك أن يشهد نهاية ظاهرة "الميردوخية" (نسبة إلي قطب الإعلام اليهودي روبرت ميردوخ) الزاحفة إلي وسائل الإعلام العالمية الكبري؟ أم أن هذه الظاهرة ستستمر بعد أن انشغلت الساحة الإعلامية والسياسية وحتي الاجتماعية ليس في بريطانيا فحسب بل في العالم كله، علي مدي الأسابيع الماضية بهذه الفضيحة الكبري.. أدت هذه الفضيحة حتي الآن إلي إغلاق واحدة من أبرز الصحف البريطانية وهي مجلة "نيوز أوف ذي وورلد" ، كما أدت إلي تجاذبات سياسية واجتماعية واقتصادية عديدة، حيث تبين أن الصحيفة مارست علي مدي سنوات طوال عمليات تجسس منظمة علي هواتف معظم الشخصيات الاجتماعية والفنية والسياسية والاقتصادية في بريطانيا. وقد بلغت الفضيحة حداً جعل آلاف البريطانيين يتظاهرون في شوارع لندن ضد السيطرة الأجنبية علي الإعلام البريطاني، ويطالبون بتحقيق مستقل في الفضيحة، كما بلغت حداً أن حزب العمال البريطاني المعارض طالب بالعمل علي الحد من سيطرة قطب الإعلام الشهير روبرت ميردوخ علي سوق الإعلام في بريطانيا. ومن الأسباب التي زادت بشدة غضب الرأي العام في بريطانيا مزاعم اختراق لهواتف مشاهير ونجوم مجتمع.. واتهم صحفيين ومحققين مأجورين يعملون لصالح صحيفة "نيوز أوف ذا وورلد" بأنهم اخترقوا البريد الصوتي لآلاف الأشخاص ابتداء من ضحايا جرائم مروعة إلي أسر قتلي من العسكريين والسماح لصحفيين بالتنصت علي المكالمات الهاتفية لضحايا تفجيرات لندن الإرهابية عام 2005 وعائلات لجنود بريطانيين قُتلوا في العراق وأفغانستان. نهاية أسطورة أنهت مجلة "نيوز أوف ذي وورلد" تاريخا طويلا من صحافة الفضائح بلغ 169 عاما بعد أن توقفت، عن الصدور، نهائيا قبل أيام.. أثارت الإدعاءات حول أنشطة صحيفة "نيوز أوف ذي وورلد" موجة من الاشمئزاز العام، وفي ظل تهديد المعلنين بالمقاطعة وتبني رئيس الوزراء الدعوات لإجراء تحقيق عام، أعلنت الشركة عن إغلاق صحيفتها التي يعود تاريخها إلي 169 عاما، وكذلك الموقع الإلكتروني. أصبح معروفا أن السبب وراء هذه الفضيحة، هو ممارسة قرصنة الهواتف المحمولة علي مئات الأشخاص، من المشاهير والوزراء والساسة، وكذلك ضحايا ممن فقدوا أفرادا من عائلاتهم أو كانوا هم أنفسهم ضحايا الهجمات الإرهابية علي قطارات لندن في السابع من يوليو 2005م، فضلاً عن ضحايا كثيرين لجرائم بشعة استقطبت اهتمام المجتمع والرأي العام البريطاني. لتسهيل عملية التنصت كان لابد للصحيفة من التواطؤ مع خبراء كمبيوتر متخصصين في البرامج الخاصة بهذا النشاط، وعندما كانت الفضيحة تتعلق بالمشاهير والأغنياء والساسة، أعطي المتضررون الفرصة للقضاء البريطاني، لكي يقول كلمته، ولكن عندما اتسع نطاق التنصت إلي المواطنين العاديين، تم فتح تحقيق شامل، وأصبحت القضية بمثابة فضيحة محلية كبيرة، لا يمكن التستر عليها لمجرد أنها تنتمي إلي إمبراطورية ميردوخ الإعلامية، التي دعمت حزب المحافظين في انتخابات 2010م، مثلما كانت تدعم حكومات العمال أيام كان توني بلير علي رأسها. "نيوز أوف ذي وورلد" قامت بممارسة أعمال القرصنة علي البريد الصوتي لمشاهير وسياسيين وأفراد من العائلة الملكية، لكن هذه المرة كانت مختلفة تماما، حيث امتد التنصت الذي تمارسه الصحيفة ليشمل هاتف طالبة تعرضت إلي القتل، وتدعي "ميلي دولر"، وهي المراهقة المختطفة عام 2002 وكان أحد مراسلي الصحيفة قد وصل إلي رسائل الفتاة الهاتفية، في الوقت الذي كانت فيه الشرطة تبذل قصاري جهدها للعثور علي الفتاة، ولم يكتف المراسل بالتجسس علي رسائلها فقط، لكنه أيضا محي كثيرا منها، ليدمر بذلك أدلة مهمة في قضيتها، وهو ما جعل أسرتها تعتقد أنها مازالت علي قيد الحياة. لكن يبدو أن الأمر لم يتوقف عند هؤلاء فحسب، بل خرجت نيران الفضيحة إلي خارج البلاد لتطول الأمير الوليد بن طلال الأمير السعودي والذي يملك أسهما في شركة "إمبراطوار الإعلام ميردوخ"؛ حيث دافع الأمير السعودي في حديث ل"هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن روبيرت ميردوخ وابنه "جيمس" الرئيس التنفيذي لشركة "نيوز كوربوريشن".. مؤكداً أن تعاملاته معهما علي مدي السنوات العشرين الماضية "تميزت بأعلي قدر من النزاهة".. وقال الأمير -الذي يملك سبعة بالمائة من حصص شركة "نيوز كوربوريشن"، التي يملك "روبيرت ميردوخ" الحصة الأكبر منها: إن المؤشرات تدل علي تورط "بروكس" المديرة السابقة في المجموعة، ويجب أن ترحل ويمكنكم الرهان علي ذلك؛ لأن الأخلاق بالنسبة لي مهمة جداً". تواطؤ التحرير والشرطة ويبدو أن هناك محققين بالشرطة البريطانية كانوا يعملون لمصلحة الصحيفة، كما قاموا كذلك بالتنصت علي البريد الصوتي لعائلات الضحايا والجنود الذين قتلوا في العراق وأفغانستان، حيث اعترفت "نيوز إنترناشونال" بأنها دفعت مبالغ كبيرة من المال لضباط شرطة مقابل الحصول علي معلومات، وهو ما يعتبر أمرا غير قانوني. رغم كل الأدلة المتوفرة والشكاوي، فإن الشرطة لم تفتح التحقيق ثانية، بسرعة، لأن كل الفضائح القديمة أضيف إليها الكشف عن ممارسات فساد ورشاو طالت عددا من عناصر الشرطة. كما تم اتهام "أندي كولسون"، رئيس تحرير الصحيفة السابق، بالتنصت علي المكالمات الهاتفية، بالإضافة إلي اتهامات أخري بالفساد، وذلك بعد إعلان رئيس الوزراء البريطاني "ديفيد كاميرون" عن فتح التحقيق حول فضيحة التصنت. كان "كولسون" مديرا للاتصالات في مكتب رئاسة الحكومة بعد استقالته من منصبه كرئيس تحرير الصحيفة في أثناء الكشف عن فضيحة التنصت علي الهواتف المحمولة عام 2007 لكنه استقال من منصبه بحجة أن الفضيحة جعلت من الصعب عليه مواصلة عمله بالصحيفة. تقدم "كولسون" باستقالته من رئاسة تحرير "نيوز أوف ذي وورلد" عام 2007، مع بدء اكتشاف فضيحة التنصت، التي قامت بها الصحيفة، علي هواتف محمولة لمسئولين وسياسيين ومشاهير، وطالت أيضا عددا من موظفي القصر الملكي، حيث تم اتهامه بمساعدة بعض الصحفيين بالتنصت علي مكالمات العائلة المالكة، وذلك بعد أن أدانت المحكمة مراسل القصر الملكي في الصحيفة ويدعي "كلايف غودمان" بالتنصت علي هواتف العائلة المالكة؛ من بينهم الأميران "ويليام" و"هاري"، كما أدين أيضا محقق كان يعمل لحساب "كولسون" ويدعي "غلين مالكير"، وحُكم عليهم بالسجن لعدة أشهر. ولم تستثن الممثلة البريطانية الشهيرة "سينيا ميلر" من عمليات التنصت علي الهواتف المحمولة التي قامت بها صحيفة "نيوز أوف ذي وورلد"، لكنها كانت أول شخصية عامة تحصل علي تعويض واعتذار من مالكي الصحيفة التي تهتم بأخبار المشاهير. اختفاء الصحيفة الإنجليزية صاحبة الصيت الواسع، والمعروفة عالميا، يعد نقطة فارقة في تاريخ الصحافة العالمية؛ وليست الإنجليزية فحسب، بخاصة أن سبب الاختفاء أمر يهم الجميع، بل ويعده كل أصحاب المؤسسات الصحفية درسًا لهم؛ لتغيير سياستهم التحريرية؛ الأمر جد خطير، بخاصة عندما يتعلق بالاعتداء علي انتهاك الخصوصية، والتدخل في الحريات الشخصية. اعتذار ولكن الطامة الكبري، أن عملاق الصحافة العالمية وأشهر ناشر صحف في العالم "روبرت ميردوخ"، يدرك جيداً الفارق بين الصحافة الرصينة وصحافة الإثارة، ومع ذلك وقع في الخطأ بكلتا رجليه، دون أن يدري أن العواقب وخيمة. الصحافة الجيدة ليست تلك التي تشبه "ويكيليكس" بحيث تقذف بكل شيء علي الإنترنت بصرف النظر عما إذا كان مضراً للآخرين أو مسيئاً لسمعتهم، أو خالىًّا من المسئولية. بل إن الصحافة الجيدة هي التي تتحري الدقة في تغطياتها وبذوق سليم وحس أخلاقي. ورغم أن "ميردوخ" قدم اعتذارًا رسميا عن هذه الفضيحة الكبري، وتعهد في إعلانات نشرتها الصحف البريطانية باتخاذ "خطوات ملموسة" لحل المشكلة.. وقال ميردوخ في إبداء نادر للأسف: "تعمل "نيوز أوف ذي وورلد" في مجال محاسبة الآخرين، لكنها فشلت عندما تعلق الأمر بها".. وأضافت مذكرة الاعتذار التي وقعها ميردوخ: "نعتذر عن الخطأ الجسيم الذي وقع، نأسف بشدة عن الأذي الذي لحق بالمتضررين". في السياق نفسه ادعي شرطي سابق بنيويورك أن مراسلي صحيفة "نيوز أوف ذي وورلد" حاولوا اختراق البريد الصوتي لضحايا حادث 11 سبتمبر، وفقا لما ذكرته صحيفة "الديلي ميل" البريطانية، وزعم أن صحفيي "نيوز أوف ذي وورلد" اتصلوا به وقالوا له إنهم علي استعداد أن يقدموا إليه الأموال في مقابل الحصول علي سجلات المكالمات الهاتفية للضحايا. كما أكد الشرطي السابق الذي يعمل حاليا كمحقق خاص، أن الصحفيين كانوا يريدون أرقام الهواتف المحمولة للضحايا وتفاصيل مكالماتهم خلال أيام الحادث. وقال مصدر لصحيفة ديلي ميرور :"يتم استخدام هذا المحقق من قبل الكثير من الصحفيين في أمريكا كما أنه قال لي مؤخرا إنه قد سئل في محاولة تنصته واقتحامه لبيانات المكالمات الخاصة لضحايا أحداث سبتمبر".أضاف المصدر أن هذا المحقق قد أخبره أن الصحفيين طلبوا منه الوصول إلي سجلات المكالمات التي أجريت من وإلي هواتف أقارب الضحايا. وتحدث زعيم المعارضة في مجلس العموم إد ميليباند فقال إن من الضروري أن يستعيد الشعب البريطاني الثقة الضائعة في السياسة والشرطة والصحافة، وأعرب عن ترحيبه بقرار رئيس الوزراء بتشكيل لجنة للتحقيق في القضية. وأضاف ميلباند أنه ينبغي علي رئيس الوزراء أن يقدم اعتذارا صريحا عن قراره بتعيين آندي كولسن مستشارا صحفيا له ، وقال إن كاميرون قد تجاهل عددا من التحذيرات عن هذا التعيين. وقد تزامنت تداعيات الفضيحة مع العثور علي شين هوري، الصحفي السابق في نيوز أوف ذا وورلد ، ميتا في منزله ببلدة واتفورد البريطانية. وكان هوري هو أول من حذر في صحيفة "نيويورك تايمز" من أن عمليات التنصت علي الهواتف التي تقوم بها صحيفة نيوز أوف ذا وورلد في بريطانيا، تفوق بكثير ما اعترفت به تلك الصحيفة عند التحقيق معها بمعرفة الشرطة البريطانية للمرة الأولي. استقالات ومخاوف وفي الوقت نفسه استقال مساعد رئيس شرطة العاصمة البريطانية المفتش جون ييتس بعد تزايد الضغوط المتعلقة بدوره في الفضيحة . وكان ييتس هو المسئول عن فحص أوراق تعيين نيل واليس الذي كان يعمل سابقا في صحيفة نيوز أوف ذا وورلد والذي تم اعتقاله علي خلفية تلك الفضيحة. وسبق ذلك أيضاً استقالة رئيس شرطة العاصمة البريطانية السير بول ستيفنسون بسبب الفضيحة. وأعلن عمدة لندن بوريس جونسون أن نائب رئيس الشرطة تيم جودوين سيتولي منصب رئيس شرطة العاصمة بصفة مؤقتة لحين تعيين رئيس جديد خلفا لبول ستيفنسون. كما أعرب جونسون عن اعتقاده بأن قرار كل من بول ستيفنسون وجون ييتس بالاستقالة كان صائبا. وتواصلت تداعيات فضيحة التنصت مع اعتقال ربيكا بروك التي استقالت من رئاسة نيوز انترناشيونال. وكانت الشرطة أكدت اعتقال بروكس، أرفع مسئولة في شركة نيوز انترناشيونال. قلق عالمي وعلي خلفية هذه الفضيحة عكفت استراليا علي قرار يشدد من قوانين احترام الحريات الخاصة، في الوقت الذي وصلت تداعيات الفضيحة إلي الولاياتالمتحدة. فقد أطلق وزير الداخلية الأسترالي بريندن أوكونور سلسلة مشاورات برلمانية لإعداد مشروع قانون يتيح للمواطنين مقاضاة أي جهة تتورط في انتهاك حياتهم الخاصة وذلك ردا علي مخاوف الرأي العام الأسترالي بعد فضيحة شركة نيوز. أما في العاصمة الأمريكية، فقد ردت لجنة داو جونز الخاصة علي رسالة من مجلس الشيوخ الأمريكي قالت فيها إنها لم تر أي تصرف غير شرعي في عمل صحيفة وول ستريت جورنال التابعة لشركة نيوز كورب المملوكة لميردوخ. وجاء ذلك في تصريح رسمي لرئيس اللجنة الخاصة توم براي إن التحقيقات لم تكشف أي انتهاك للميثاق المهني أو القانوني الخاص بالإعلام والنشر من قبل صحيفتي وول ستريت جورنال أو داو جونز الاقتصاديتين. وإثر الفضيحة، أعلنت مؤسسة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز أنها وضعت مجموعة نيوز كورب قيد المراجعة مع احتمال خفض تصنيفها الائتماني إلي سلبي. وأشارت المؤسسة في تقرير لها إلي تصاعد "مخاطر السمعة والأعمال" لهذه المجموعة الإعلامية. الخروج عن الأصول إن قضية الخروج علي المعايير الصحفية، لم تنتهِ بعد، بل إن خيوطها لا تزال تتجمع، ولن تتوقف علي هذه الصحيفة فحسب، بل أصبحت قضية عامة يجب أن ينظر لها بعين الاعتبار في العالم كله، وتكون هناك وقفة حاسمة مع صحف الإثارة، وما إذا قررت "نيوز أوف ذي وورلد" الظهور مجدداً، لابد أن تظهر باسم مغاير، فإنه يحسُن بها تغيير مسلكها واختيار أسلوب صحفي أكثر مسئولية؛ لأن الجميع لن يتقبلها بعد ذلك.. الرسالة وصلت.