تكورت دموعي ولم تتساقط فصارت زغللة للعين؛ وبدا بريقها كشاشة تتوالى عليها تذكارت بعض مما جرى في أربعين عاما من وقائع . وكان سبب ذلك هو خروج جثمان صديقي د. محمد شعلان محمولا على أكتاف ثمانية ممن يحملون درجة الدكتوراة في النفس البشرية بأحوالها التي تحير الخلق منذ أن نزل آدم من الجنة بحادث الغواية الأشهر ليؤسس حيرة الإنسان مع حق الإختيار ، فضلا عن طبيعة إختلاف الرجل عن المرأة ومرورا بقابيل الذي كان صاحب أول « إشمعنى «غيرة من جمال زوجة أخيه ، فضلا عن نيران الإشتهاء التي تفقد التفكير المتوازن ، فصار غضبه بركان عنف حسب ما تقول الروايات ليتحرك قاتلا ، ثم يغلفه الندم ليتعلم من غراب كيف يواري جسد الطيب هابيل في التراب . وكان على جثمان محمد شعلان الفيلسوف والعالم أن يتجه بما تحمله جسده من طعنات وإنكار تكريم محلي إلى تراب قرية المشاعلة؛ لتستقبله شجرة كافور بجانبها « زير» ممتلئ بالمياه ليروى عطش أي كائن يمر,ولتسقط من قاع « الزير» قطرات تروي شجرة الكافور ، وكان ذلك بعضا من وصيته لأننا لم نتقدم بعد ، فنترك الجثامين أمانة لدي تلامذة الطب ،يتعلمون بتشريحها وقد يستفيد بعض من الأحياء بما يصلح في الجثمان كقطع غيار ؛ وعندما عاتبته متأذيا من تلك النقطة ، إبتسم ليقول « الروح التي تحرك الحياة تغادر الجسد ، فلماذا تضن على غيرك بما يفيدهم ؟. ولم يقل لي أن مناقشة هادئة دارت بينه وبين شيخ الأزهر السابق الشيخ طنطاوي ، خرج بعدها الشيخ ليعلن التبرع بجثمانه حين يحين الأجل لمن يستطيع إستخدام أي عضو فيه مستفيدا منه في مواصلة الحياة ، لكن شاء القدر أن تكون نهاية الشيخ طنطاوي بالأراضي المقدسة ودفن هناك. ................................................... تتزاحم تذكارات أربعين عاما ، كل منها يرغب في القفز إلى مقدمة ما أرويه. بدأت الصداقة في مناقشة لرواية « المسيح يصلب من جديد « لكازنتزاكس إبن كريت الذي كان بينه وبين الأتراك ثائرا لا يندمل ، هو ثأر إصرار العثمانيين على أنهم هم « الإسلام « ، وكانت مصر تعاني في عام اللقاء 1976 من توحش الجماعات المتأسلمة التي زرعها عثمان أحمد عثمان في أسيوط . وكنا ضيوفا على شوقي جلال مترجم الرواية بإبداعه المرموق ، وكان الحديث عما يفعله التعصب من تجميد للوجدان ونفي القدرة على إدارة الذات فيتحول الفرد إلى كيس آدمي منفي في زمان يختلف عن الزمان. وكانت الرواية تضم شخصية رجل دين يفرغ القرى من خيراتها كي يضمن لهم وساطة المسيح ، وفي المقابل كان هناك « ظل الله على الأرض «وهو الوالي العثماني الذي دخل كريت _يإسم الإسلام _على رأس جيش تركي ، وجلس على أريكته بعد التقتيل وخطف النساء ، ومداعبة الغلمان ، وقال قولته الشهيرة بمعناها « هكذا جاءت لي الجنة بكل ما فيها ، جواري حسان ، ونرجيلة فارهة وغلمان تحت تصرفي «. وكان توظيف الدين كأداة لسلب الروح هو مهمة رجلين تاجرا بالدين ، ذاك الذي يتاجر بوساطة المسيح والثاني الذي يتاجر في قهر البشر بإسم الإسلام. وكانت ضحكاتنا نحن الثلاثة مجروحة بقلق جسيم على التعصب إبن الجهل الذي زرعه السادات قبل إنتصار أكتوبر، وتفرغ بعدها لصناعة الهزيمة الماحقة للعدالة الإجتماعية والقطاع العام ، فصار هناك أصحاب ملايين ومليارات، بعد أن فتح عثمان أحمد عثمان بوابات الجحيم على كل من ينادي بالعدالة الإجتماعية . وناقشت يومها د.محمد شعلان في أننا كل ربيع نجدها فرصة للترابط الأسري حتى من خلال الإستعداد لإمتحانات آخر العام ، فكل الأباء يتواضعون أمام أبنائهم في تلك الفترة من الزمن ، كما أن الأسرة كلها تتواجد في إرتباط متوتر إستعدادا للإمتحانات . وبما أننا علميا _ محمد شعلان وأنا _ نوقن أن المقررات الدراسية في مراحل الدراسة كلها تحتاج لثلاثة بالمائة من قدرة المخ البشري المتوسط ، وأن العباقرة يستخدمون سبعة بالمائة من قدرات المخ ، وعلى ذلك فالتوتر بسبب المذاكرة والإمتحانات والمجموع هو عدم قدرة على تحقيق إنسجام إنساني داخل الأسرة ويمكننا مواجهة ذلك بإعادة تربيط الأسرة وبشرح طبيعة علاقات المراهق بالأب والأم والأصدقاء والحب وترتيب النفس ، وولد برنامج « تذكرة نجاح « بجانب شقيقه برنامج « تحت العشرين «الذي إنفردت بتقديمه من عام 1970 إلى 2009 ثم إعتذرت عن مواصلة تقديمه . إقتنع محمد شعلان بأن يقدم حديثا يوميا عبر الإذاعة المحبوبة من عموم المصريين في ذلك الوقت ؛ إذاعة الشرق الأوسط ، ,وحقق البرنامج نجاحا ساحقا ، بهدفه لا الجري وراء الأبناء بالمجموع العالي ولكن بفرد مساحة المودة عبر المناقشة بين الكبار والأبناء. وفي ذلك الوقت جاءت وفاة عبد الحليم حافظ ، وكنت أريد مزيدا من الفهم لشخصية عبد الحليم عبر إعترافاته لي . ووضعتها أمام محمد شعلان الذي أضاء لي فهم أسباب التعدد العاطفي في حياة عبد الحليم ، فطفل الملاجئ يعيش الحياة بحذر وعدم ثقة ، فما بالنا بمن صرخ وهو يخرج من بطن أمه فلم تسمع صراخه لأنها سافرت إلى نهايتها ، ومضى يبحث عن حنانها المفقود بين صدور النساء في طفولته ، وفي التعدد وعدم القدرة على الإندماج في نضجه ، وممارسة الحياة بمنطق لعبة الكوتشينة التي أدمنها عبد الحليم ، فتشغله أوراقها عن مواجهة حقائق حياته فخاف من الزواج بسبب إستعداده النفسي بعدم الثقة في المرأة ، فإذا كانت امه قد خانته بالموت ، فكيف ستكون أي إمرأة أخرى قادرة على صيانة حقه في الحياة ، فضلا عن إبداء رضاه العلني لسبب رأي أبداه له مصطفى أمين من أن زواجه سيقلل عدد المعجبات به ، ولم يسمع لرأي إحسان عبد القدوس الذي رأى أن الزواج ينقل الرجل إلى درجة من النضج المسئول . ثم توقف عند رأي قاله له د. يس عبد الغفار أمامي ، حيث شرح كيف أن الكبد بعد مرحلة معينة من العطب لا يقوم بتنقية الدم تماما كما هى وظائف الكبد ؛ فمن أهم مهام الكبد عند الرجل هو تنقية الدم من الهرمونات الأنثوية ، تماما كما أن من مهامه عند المرأة تنقية دمها من الهرمونات الذكورية . وأن هذا يورث إرتباكا عاطفيا ضاريا . وقد يدفع صاحبه في رأي محمد شعلان إلى دوامات لا نهاية لها من القلق. وقد يسرع به إلى الخلاف من أصدقائه . وقد فسر لي ذلك خلافا نشأ بين عبد الحليم وبين ثري شرقي منحه في كازينو كازينوفا بلندن « فيش للعب « بمبلغ يزيد على المائة ألف إسترليني، وكان الثري الشرقي يريد من عبد الحليم أن يستخدم ذلك « الفيش « في اللعب . فإتجه عبد الحليم إلى البنك الموجود بالكازينو ليحول الفيش إلى شيك مقبول الدفع عند أي بنك آخر، وغادر عبد الحليم الكازينو ليودع الشيك في حسابه ببنك « مويس أند جرام « الذي لا يغلق أبوابه ليلا أو نهارا . ثم عاد إلى الكازينو ليلعب بالفيش المتبقي معه وهو بضعة عشرات من الجنيهات الإسترلينية . وبعد مرور عدة ساعات كان الثري الشرقي قد خسر عدة ملايين ، فطلب إجراء « مصالحة « مع إدارة الكازينو ليخفض من تلك الخسائر ففوجئ بأن عبد الحليم قد قام بتحويل كمية كبيرة من الفيش إلى شيك مدفوع ، ولم يلعب بكل الفيش الذي منحه إياه الثري الشرقي ، فقام شجار لفظي بين عبد الحليم والثري الشرقي ، فقال عبد الحليم « ظننت أن النقود التي أعطيتها لي كفيش للعب هي منحة أتصرف فيها كما أريد . ولما كنت مريضا يحتاج إلى مصروفات كثيرا فضلا عن أني مرتبط بشبكة علاقات إنسانية تطلب كثير من المشتريات فقد إستخسرت اللعب بما منحته لي كله ، فقمت بتحويل كمية كبيرة منه لحسابي البنكي . وإذا أردت سأرد لك كل النقود « . وإنكسرت لحظتها علاقة عبد الحليم بذلك الثري الشرقي. .......................................... وهبطت علينا صاعقة زيارة السادات إلى القدس لتتبعها مباحثات كامب دافيد، ثم إتفاقية السلام . هاج المجتمع الثقافي بفوران رفض غاضب، لكن الرفض بالغضب يختلف عن محاولة الفهم والقتال . وكان صديقنا د. قدري حفني الذي نال درجة الدكتوراه في نفسية الخصم الإسرائيلى هو أول من إمتلك التوازن النفسي بعد صدمة كامب دافيد وأعلن أن الإتفاقية نقلت الصراع بين العرب وإسرائيل من دائرة «فرض الكفاية «إلى دائرة «فرض العين» أي عموم المواجهة ، بمعنى أن الصراع العربي الإسرائيلي إنتقل من دائرة مواجهة جيش لجيش إلى دائرة أن يكون الصراع علميا وزراعيا وصناعيا وإنتاجيا ، وإذا كانت الأنظمة العربية قد تراخت عن صناعة سلاحها ، فلا يجب أن تتراخى عن سرعة التقدم العلمي والصناعي والإجتماعي ، فعين الفلاح العربي عليها أن تتفوق على عين الفلاح الإسرائيلي الذي سرق الأرض ، وعين المهندس المصري عليها أن تواجه خبرة المهندس الإسرائيلي وتتفوق عليه . ولا يمكن أن تملك الأرض العربية كل الثروات الهائلة ولا تنظم إنتاج العقول وأساليب العمل التي تواجه إسرائيل . ولا يعني ذلك تراخيا عسكريا في المجتمع المصري الذي يفترض فيه أنه خط المواجهة الأول مع إسرائيل ، ولكن معناه أن تلحق المجتمعات العربية بإعداد جيوشها لتكون قادرة على المواجهة. كانت هذه الرؤى غير قابلة للتصديق عند من تعودوا على أن يكون الجيش المتحمل لأعباء المواجهة هو الجيش المصري . وهاجت علينا جحافل من غرقوا في سفه الثروة البترولية دون أن ينتبهوا إلى أن واحدا من كبار رجال الحكم في دولة شقيقة ، حضر اجتماعات أرادها السادات لتأسيس هيئة تسليح ، هذا الواحد اتصل فور نزوله إلى القاهرة بواحدة من سيدات الترفيه الليلي . وكانت هذه السيدة تتلقى علاجها ضمن مجموعة سيدات يعانين من إكتئاب مزمن بعيادة محمد شعلان . وحكت كيف قضى عندها الرجل المسئول وقتا يفوق الوقت الذي قضاه في المهمة التي حضر إلي القاهرة بسببها. ولم يتذكر أحد أن صناعة السلاح تضع المجتمع على شريط قطار التطور العلمي السريع ؛ وتنقل المجتمع من دائرة الترهل إلى دائرة إنتاج ما يحتاجه ، فمن يصنع سلاحه ، يحاول على قدر طاقاته أن يقلل إعتماده على غيره . ولذلك إقتنع محمد شعلان بما إقترحه قدري حفني بفكرة السلام الهجومي ، فإسرائيل التي لم تضع حدودها على أي خريطة ؛ إنكسر جزء كبير من خريطة أحلامها بعبور قوات الجيش المصري للقناة، وهكذا تخلخلت عند قياداتها فكرة « اللا سلم واللا حرب « التي تتيح لها شن الهجمات عندما تريد ، وعلى معاهدة كامب دافيد أن توقف قدراتها على إلتهام ما تريد من الأرض العربية. وتطورت فكرة « السلام الهجومي « على يد قدري حفني ومحمد شعلان ، وصارت بيت مناقشات كبيرة في أوساط الجامعات المهمة . بل إن ياسر عرفات وجدها فرصة ليضع شعاره المولود في قلبه والذي صاغه الشاعر محمود درويش في عبارة كتبها بخطاب ياسر عرفات بجنيف « جئت إليكم أحمل غصن زيتون وبندقية ، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي «. واندمج محمد شعلان في دراسة الصراع العربي الإسرائيلي وتلقى الكثير من اللعنات من بعض أهل المعارضة في مصر ، وتلقى موجات من الكراهية من بعض الإسرائيليين . والسبب هو إيمان محمد شعلان بالمساواة التامة بين حقوق الفلسطيني وحقوق الإسرائيلي ، فإذا كان الإسرائيلي يبيع فكرة أنه مفتقد للأمان فعليه أن يعلم أنه لن يحصل على الأمان في ظل القهر المفروض على الفلسطينيين . ومازلت أذكر كيف دق بابي ذات ليل قديم ليخبرني أنه ذاهب ليرى حقيقة الخوف المتبادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أرض الواقع . وطلبت منه أن يؤجل الزيارة لفلسطين المحتلة إلى أن تتضح الصورة كاملة ، ولم أكن أعلم أن منظمة التحرير الفلسطينية تعزز اتصالات شعلان بالعرب داخل الأرض المحتلة وتحاول أن تستغل مكانته في العالم ليرفع صورة الواقع المهين الذي يعيشه العرب تحت ظل الاحتلال . وتم تتويج انغماس محمد شعلان في الرحلة السياسية للطب النفسي داخل أسوار السياسة العربية بمؤتمر تفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيلي والمصريين والأمريكيين تم عقده في جامعة نيويورك ، وكان يشترك فيه الأستاذ الدكتور قدري حفني أستاذ علم النفس الشهير وصاحب الدراسات الجادة عن الإسرائيليين ، هؤلاء المدمنين لحياة « اللاسلم واللاحرب « وكاد مدير مخابرات إسرائيل الأسبق «مردخاي «أن يقلب المائدة على الوفود عندما طرح د. قدري أن تتم تسمية بقعة الأرض التي يقال عنها إسرائيل بأي اسم شرط أن ينال كل من يوجد فيها نفس الحقوق ، فلا يصح أن ينال يهودي امتيازا فوق المسلم أو المسيحي ، ولا يصح أن يستدعي اليهودي أقاربه من بلاد بعيدة دون أن يسترجع المسلم أو المسيحي مفتاح بيته الذي طردته منه بعض من العصابات التي ترفع لواء التعصب لدين فوق آخر . ولايصح أن يمنعه أحد من العودة إلى بلده . هنا صرخ مدير المخابرات الإسرائيلية الأسبق في وجه كل من قدري حفني ومحمد شعلان : لقد جئتما إلى نيويورك لهدم دولة إسرائيل بنقود بحث أمريكية. ونال الأستاذ الأمريكي ستيف كوهين الذي نظم البحث نوعا من العقاب لأنه لم يأت بأناس يمكن تليين رءوسهم . وفطن اليابانيون المقدسون لفكرة السلام بعد علمهم أن إسرائيل إمتلكت القنبلة النووية ، فجاء وفد منهم إلى القاهرة ليدعو محمد شعلان ويدعوني لذكرى إلقاء القنبلتين على هورشيما ونجازاكي . وطرنا إلى هناك ليستقبلنا الأب هاجامي رئيس معبد ميجي أكبر المعابد البوذية على وجه البسيطة ، ووقف محمد شعلان في ساحة الإحتفال التي ضمت أكثر من عشرة آلاف مثقف من مائة وأربع عشرة دولة من دول العالم في ساحة مدينة هورشيما باليابان ليستمعوا له وهو يتحدث بإنجليزية رفيعة وبسيطة عن أسباب احتياج الإنسان للسلام مع النفس ، واحتياج الدول إلى السلام مع بعضها البعض ، لأن القنبلة الذرية التي أصابت ملايين البشر في هورشيما ونجازاكي لم تصب اليابانيين بالإبادة والأمراض فقط ، ولكنها أضافت للشخصية الأمريكية بعدا متوحشا على الأمريكيين سرعة التخلص منه . ................................................... وفي مؤتمر آخر رأيت محمد شعلان يخاطب ثلاثة آلاف طبيب نفسي إجتمعوا ذات نهار في جامعة هارفارد ليستمعوا إلى رؤاه حول مستقبل الطب النفسي . فهو من رأى أن الطبيب النفسي الحقيقي هو من يحاول بناء جسر يومي بين تاريخ الشخص الذي يقول « آآه « من ألم لا يراه أحد وبين قدرة هذا الشخص على بناء أسلوب جديد للنظر إلى مشكلاته ، وهو بتبسيط شديد يعلم المريض كيفية استدعاء الطفل الموجود في أعماق كل منا ، وأن يجلس الواحد أمام أيامه وينظر إليها كما ينظر الطفل إلى « مكعبات « ومثلثات « وكلمات متقاطعة ، ويعيد بناء نفسه من جديد . وهكذا يخرج المريض من دائرة المرض النفسي إلى دائرة البشر الأصحاء . وكأن الطبيب النفسي المحترف هو من يقود المريض النفسي إلى العودة إلى رحم غير مرئي غير رحم أمه ، ليعيد تفصيل حياة جديدة لنفسه ، فيكون هو النحات الجديد لشخصية جديدة ، فيها ملامح ذاته القديمة ، ولكن الشخصية الجديدة يمكنها أن تبدع أكثر . على هذا الأساس يمكن لنا أن نفهم لماذا أقول دائما : ليس من السهل أن نطلق لقب «طبيب نفسي» على كل من تخرج من كلية الطب ونال درجة الماجستير أو الدكتوراه في الطب النفسي ، لأن عدد من يستحقون هذا اللقب في بر مصر المحروسة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ، لا لقلة قيمة ما تعلمه الحاصلون على درجة الماجستير والدكتوراه في مجال الطب النفسي ، ولكن لأن شركات الدواء قامت بتسهيل احتراف عدد كبير لتلك المهنة الجليلة والصعبة بشكل ضار وقاتل أحيانا ، فقد أصدرت تلك الشركات قاموسا علميا تمت مراجعته بواسطة العديد من الأطباء النفسيين ، وفي هذا القاموس توجد أعراض كل مرض نفسي ، وماذا يفعله دواء معين في مواجهة هذا المرض ، وما أن يأتي مريض إلى العيادة ، ويحكي تلك الأعراض في خمس دقائق ، فالطبيب يكتب له عددا من الأدوية التي تعالج تلك الأعراض . وعلى المريض أن يعود بعد أسبوع للاستشارة ، ثم بعد أسبوع آخر لكشف جديد . أما أعماق المريض نفسه ، فلا ينتبه الطبيب لها ، لأن الطبيب النفسي الذي زيفته شركات الدواء قد يقول ببساطة « إن مهمتي هي إزالة أعراض المرض ، وليس من مهامي أن أرحل في أعماق المريض ، فالرحيل في أعماق المريض هو عمل المعالج النفسي الذي يمكنه أن يستمع إلى الشكاوى ويغوص في تفاصيل حياة المرضى « . وينسى من يقول ذلك أنه خان المهمة الأولى للطبيب ؛ ألا وهي أن يفحص المريض « من إصبع قدمه إلى شعر رأسه» ، كأنه ممارس عام ؛ هذا ما يفرضه قانون الكشف على المريض النفسي في كل من أمريكا وإنجلترا ، ولابد أن يسمع الطبيب من المريض التاريخ الشخصي له ، وأن يقيم صداقة بينه وبين هذا المريض بما يحقق هدفين أساسيين ، الأول هو بدء الصداقة الخاصة بين الاثنين لبعض الوقت ، والثاني وهو أن يتعرف على التداخل بين الأمراض النفسية المختلفة في أعماق هذا المريض ، لأن أي مريض نفسي لا يعاني في الأغلب الأعم من مرض واحد ، ولكنه يعاني من أعراض عدة أمراض نفسية متداخلة ، ومن أجل ذلك أعادت هيئة الصحة العالمية تصنيف الأمراض النفسية ، حتى يمكنها أن تساعد الأطباء على رؤية الفروق الدقيقة بين مرض وآخر ،ودرجة امتزاج كل مرض وآخر ، وأي طريق للعلاج يمكن أن يقترحه الطبيب على المريض ، فالكل يعلم أنه لا يوجد قرص سحري يمكن أن يعالج الاكتئاب ، والكل يعلم أن مرض الفصام مثلا قد يتداخل مع مرض جنون الاضطهاد المسمى البارانويا ، والكل يعلم أن هناك فارقا بين الصرع وبين الهلاوس الهستيرية ، وإن كان من الممكن أن يتداخلا . وهكذا أزال محمد شعلان الطب النفسي من دائرة « الكهنوت « إلى ساحة صيانة الحياة . وقام عمليا بتغيير معنى الطب النفسي في عالمنا العربي ، فلم يعد من اللائق أن يقف الطبيب على منصة وهمية ليتخيل أنه أرقى من المريض ، ويبدأ في تهديد المريض بالقوة القانونية المتاحة للطبيب ، ولا بالقوة المتاحة للطبيب بحكم أنه يقدر أن يخلط بضع كلمات لاتينية على لسانه ، فيصادر إنسانية المريض . وكان ذلك هو قرار محمد شعلان منذ أن عاد من الولاياتالمتحدة عام 1972 رافضا أن يعيش كموطن أمريكي ، بل رفض حتى مجرد امتلاك « الجرين كارد «الذي يسعى إليه البعض بأيديهم وأسنانهم ، كان من أوائل الأطباء الذين تعلموا الطب النفسي هناك ، و قام بتأسيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر وعلم تلاميذه الأساليب الجديدة في العلاج سواء العلاج النفسي بالدراما كأن يقوم المريض بتمثيل الظروف الحياتية التي ضغطت على جهازه النفسي ، أو أن يشترك مع آخرين في هذا التمثيل ، لأن الفن كمطهر للأعماق إنما يؤدي مفعول السحر مع المرضى النفسيين ،ثم كان هناك التطبيق الحي للمثل البلدي القائل « اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته « وهو المبدأ الذي يوجز ما يسمى العلاج الجماعي ؛ حيث يجمع الطبيب النفسي عددا من أصحاب الأمراض المتقاربة ، والتجارب الحياتية التي ضغطت على الجهاز النفسي لكل منهم فقال آآآه بطريقته ، ويحكي كل واحد منهم تجربته . ومن حق الدكتور شعلان أن أذكر كيف كان يقتر على نفسه من أجل توفير ما يستطيع ليرسله إلى إبنه وليد الذي تعلم في أرقى جامعة على وجه البسيطة وهي M I T وتخرج منها معماريا مرموقا محتفظا بخبرات إصرار والده على أن يحيا حياة أهله فكان يجمع القطن مع فلاحي القرية ، فضلا عن عمله صيفا في ورشة إصلاح سيارات ، ولم يكن ذلك طلبا لزيادة مصروف اليد ، ولكن لإكتساب خبرة التعامل مع كل طبقات المجتمع ، وهو ما أتاح لوليد فرصة هائلة منوعة من الخبرات جعلته يعتمد في بعض أيام دراسته بالولاياتالمتحدة يقوم بالصرف على نفسه . وكان محمد شعلان يرنو إلى سميه وإبن أخيه محمد عبد الصبور شعلان ، هذا الذي إعتبرته جامعة جون هوبكنز واحدا من أساتذتها وهو في الثانية والثلاثين لبراعته غير المحدودة في صيانة قدرات التزاوج عند المصاب بسرطان المثانة ؛ وجراحات إزالة أورام الثدي . كان محمد شعلان الكبير ينظر بمودة وتعاطف عمن يعطي ولا ينتظر آخذا ، وهو ما يفعله محمد عبد الصبور شعلان الذي صار سيدا لجراحات الاورام، أما الزوجة عنايات وصفى استاذة الموسيقى فقد لعبت خلال الخمسة عشرة عاما الأخيرة دور «نعسة» التى حملت حبيبها محمد شعلان وقامت برعايته رغم الشلل الرعاش وفقد القدرة علي السمع. ولا توجد كلمات توفيها حقها في الوفاء. ................................................... وتحت شجرة كافور بقرية المشاعلة يرقد جثمان صديقي الذي رحل ولكن عطر رحلته ما زال ينير بعضا من أيامي ؛ ورغم ما كتبته في السطور السابقة من محبة إلا أنها محبة مشوبة بالخيانة ، فما قدمه محمد شعلان كان أكثر من أن تتسع له سطور مقال واحد.