رغم أن التطورات العاصفة التى تجتاح الأناضول كثيرة ومعها أصبح المستقبل غامضا غير مبشر, وهو ما جعل الغضب يعتمل فى النفوس الحائرة ، إلا أن الأسبوع المنصرم كان استثنائيا إذ شهد حادثتين طغيتا على ما عداهما من أحداث, والمفارقة هى أن المواطنين العاديين كانوا أبطالها دون منافس فى تراجيديا مبكية ومضحكة فى آن واحد. فمحاولة اغتيال جان أوندر رئيس تحرير صحيفة «جمهوريت» أمام مقر العدل باسطنبول لم تمر مرور الكرام, ليست لأنها محل تحقيق من قبل الأجهزة المختصة فحسب, بل لكونها أعادت إلى الاذهان ظاهرة لم تألفها تركيا ما قبل حقبتها الأردوغانية تمثلت فى ميليشيات العدالة والتنمية الحاكم, القوة الضاربة ضد من تسول له نفسه ( فردا أو جماعات أو مؤسسات ) النيل من رئيس الجمهورية رجب طيب اردوغان. ولأن الستار بات حديديا ودولة البصاصين ترصد الأنفاس فطبيعى أن يكون الهمس, هو المقابل وهمهمات البسطاء بعموم الأناضول أوحت ومازالت بأن يدا ليست بخفية وراء طلقات الرصاص التى قدر لها من حسن الطالع ان تكون طائشة. هؤلاء الذين لا يعدمون وسيلة للافصاح عما يدور بدواخلهم كانوا على موعد مع القائد الوحيد للبلاد ، والحق أنهم فى حيرة من أمرهم هل يلقبونه بالرئيس أم بالسلطان ؟ فما من مناسبة ، إلا ويعيد أردوغان فيها تمجيد الإمبراطورية العثمانية, كان أخرها قرب الانتهاء من إنشاء الكوبرى الثالث على بوغاز البوسفور الذى أطلق عليه اسم السلطان سليم المثير للجدل ، وعنه قال إن أجداده العثمانيين كان يراودهم حلم ببناء هذا الجسر. فخلف الأبواب المغلقة وأمام شبكات التلفاز وفى أمسياتهم أمطروه سخرية وتندروا عليه, خاصة وهم يسمعونه وهو يردد «باسمى وباسم الشعب التركى أتوجه بالشكر لرئيس الوزراء، على الخدمات التى قدمها طيلة 20 شهرا من رئاسته للحكومة"، ثم مضيفا " أتمنى من الله أن يعود قرار داود أوغلو بالخير على البلاد »، مبينًا أن "كل تغيير يجلب معه حيوية جديدة، وأؤمن بأن التغيير الجارى فى رئاستى حزب العدالة والتنمية، والوزراء، سيكون وسيلة لتحقيق ذلك". وقبلها بيومين واستعدادا للعصف بداود أوغلو قال فى كلمات مستهدفا المتنحى الذى لم يكن قد اتخذ مجبرا قرار تنحيه «أن من يصلون الى المناصب عليهم أن يتوقعوا ان يتركوها بامر الشعب ». هنا انطلقوا قائلين إنها حقا عبارات صائبة متزنة, ولكن أليس من الأحرى أن يطبقها اردوغان على نفسه وهو الذى حل محل الشعب ثم مضوا مستطردين ، يعيب على الآخرين التمسك بالكراسى الزائلة وهو يعشقها لدرجة العبادة ، ينادى بالتغيير لأنه سنة الحياة شريطة ألا يطوله هو لأنه ببساطة " مكلف بمهمة من رب العرش ، المولى عز وجل ". هكذا ذهب الأكاديمى الدكتور أحمد كاشلي، عضو هيئة التدريس بجامعة مرمرة بإسطنبول فى تأييده المفرط له . لكنه لم يفصح عنه، تاركا تلاميذه فى قاعات الدرس مهمة التمحيص والبحث عنها، لكنهم سرعان ما وجدوا ضالتهم وقد تجسدت فى إلحاح أبدى يقضى بإستبدل النظام البرلمانى إلى آخر جمهورى بطعم امبراطوري. ولأنها مهمة مقدسة فلا مناص من تحقيقها فدونها حتما سينزلق الأناضول بمن عليه فى هوة سحيقة، ودرءا للانهيار وحفاظا على الوطن وساكنيه كان لابد من التخلص من تلك الزمرة التى لا تريد الهدوء والنماء له. وعندما تأكد ذهاب صاحب " نظرية صفر مشاكل " الذى كان حجر عثرة ، خرج اردوغان صائحا مطلقا صرختين مزدوجتين أولاهما كانت فى وجه أوروبا ف" لا والف لا لجغرافيا شينجن " ، إذا كان ثمنها تغيير قوانين بدونها يفقد سيطرته على مملكته الأبدية, وهو هنا ينسف اتفاق بلاده مع الاتحاد الأوروبى والذى كان صانعه أحمد داود أوغلو وبسببه إرتفعت شعبية الأخير لعنان السماء ومن هنا جاء قرار البتر وليذهب دواد اوغلو والاتحاد الأوروبى إلى الجحيم. أما صرخته الثانية فكانت "طرح النظام الرئاسى للاستفتاء الشعبي، بأسرع وقت، لتحقيق الاستقرار " ، ولم ينس تكرار جملته الشهيرة وهى أن دعوته ليست من أجله هو شخصيا وإنما لضمان مستقبل الأجيال القادمة، وللذين عقدوا آمالهم على تركيا قوية " . فاذا كان الأمر كذلك ، لماذا لم يطرح مشروعه أبان توليه رئاسة الحكومة والذى استمر اثنتى عشرة سنة خصوصا أبان فترة حكم رفيق دربه عبد الله جول ( 2007 2014 ) ؟. والسؤال ماذا تعنى كلمته " فى أسرع وقت ممكن " ؟ الاجابة بسيطة وهى أن الرجل الذى ارتدى ثوب الباديشاه سيدفع البلاد حتما إلى استحقاق تشريعى مبكر اقصاه أكتوبر القادم والذى سيكون الثالث فى أقل من سنتين ، فالبرلمان الحالى بتركيبته الحالية لن يمكنه من تحقيق مبتغاه، خاصة أن حزبه لا يمتلك النصاب القانونى وهو 330 مقعدا للذهاب للاستفتاء. ورهانه فى ذلك يكمن أولا: فى تراجع شعبية حزب الشعوب الديمقراطية الكردى على خلفية الحرب الدائرة منذ يوليو الماضى ضد الانفصاليين الأكراد, ومن ثم فهناك صعوبه بالغة، هكذا يعتقد اردوغان ، فى تجاوزهذا الحزب الحد النسبى ال 10 % للتمثيل بالبرلمان. وثانيا: الأزمة التى يعيشها حزب الحركة القومية اليمينى والمتمثلة فى الصراع على قيادته, وهى بلا شك قللت من أنصاره وهناك سيناريوهات تشير إلى أنه لن يتمكن من تجاوز الحد النسبى ، وبالتالى سيكون مصيره خارج المجلس التشريعى ، وما يعزز ذلك هو أن العدالة والتنمية الحاكم صار ينتهج ذات الأيديولوحية الشوفينية المتطرفة ، بل زادها تشددا وتعصبا ، وسلاحه فى ذلك كم الشعارات التى أطلقها رئيسه الفعلى اردوغان، وجميعها تصب فى خانة القضاء نهائيا على منظمة حزب العمال الكردستانى . ويبقى حزب الشعب الجمهورى فرغم أنه أكبر أحزاب المعارضة إلا أنه محاصر إعلاميا وتحركاته فى الشارع مقيدة نتيجة سيطرة العدالة على البلديات ، وهكذا فنسبته وفق الاستطلاعات لن تتجاوز ال 25 % ، وهذا هو جل مراد الرئيس فالمحصلة ستكون فى صالحة بعدد مقاعد ربما اقترب من ال 400 وهو ما يعنى تجاوز ثلثى مقاعد البرلمان البالغ عددها 550 مقعدا. هذا هو المخطط وتلك هى أحلام اليقظة ، لكن يبدو أن اردوغان لم ينتبه إلى حجم التعاطف الذى ناله دواد أوغلو من قطاعات مجتمعية عريضة بمن فيهم المناوئون له ، أيضا نسى أن حزبه فى النهاية ليس مسرح عرائس والدليل على ذلك أن بعض أعضائه وبنفس الفكر التآمرى يعدون له مفاجأة ستكون مدوية.