كان توقيتا فريدا ومثيرا، رغم انه يتكرر كل يوم، ألا وهو لحظة التسليم والتسلم، وردية تستعد لمغادرة المنجم واخرى تحل محلها، هذا اللقاء جمع 787 عاملا، ولم يدر بخلدهم جميعا أن الموت على مقربة منهم ففى ذات الثانية انفجر المولد الكهربائى الوحيد على عمق أربعمائة متر من سطح الارض، وكان هذا كفيلا باندلاع حريق سد معه إمدادات الاكسجين بالموقع وطوابقه الممتدة لأربعة آلاف متر، لتصمت الضحكات التى شلها أول أوكسيد الكربون، وما هى إلا ساعات تعد على أصابع اليد الواحدة، لتصبح بعدها «سوما» البلدة الصغيرة المنسية، حديث القاصى والدان فى ارجاء المعمورة من هول ما حصل لها ولابنائها. فى البداية كان عدد من قتلوا «عمدا» لا يتجاوز سبعة عشرة ثم قفز إلى 201، ولم يكن الليل قد ارخى سدوله بعد، وعلى عجل هرع الرجال بفئوسهم يحفرون قبور جماعية، رصت بصفوف متساوية فى مشهد أوحى وكأن القرية تخوض حربا أهلية أو أصابها وباء قضى على من فيها ثم يتكشف الجمع أن النعوش لا تكفى لنقل الجثامين من المستشفى لكن المدن المجاورة هبت للنجدة واحضرت توابيت كفت ومعها أخرى على سبيل الاحتياطى تنتظر اجساد المفقودين وشيعت الجنازات ووضعت قدور المياه على كل قبر ترحما كاحد طقوس المتبعة. وهكذا عاد الأتراك إلى الاحزان، ويبدو أن مشاغل الحياة اليومية لا تنتهى، نستهم مؤقتا أوجاع وآلام سببتها حوادث دامية كان مسرحها باطن الارض، بعضها فى عقود بعيدة، وكثير منها وقعت خلال فترات قريبة، ولأن الاناضول زاخر بالمناجم شرقا وغربا شمالا وجنوبا، فهو دائما يعيش التوجس والترقب، وكم هى مئات العائلات التى تمنت ومازالت ألا يذهب رجالها إلى هذا العمل، ليس لأنه شاق، وإنما لمخاطره الجمة وصعوبة الانقاذ إذ وقع المقدر، ولكن ماذا عساهم أن يفعلوه فلا مناص أمامهم فالأفواه مفتوحة والمعيشة لا تتحمل الاختيار بين بدائل هى فى الأصل غير موجودة أو على الأقل شحيحة . وهنا مفارقة التى لا يتوقف عندها الساسة خصوصا الحاليين القائمين على الحكم منذ اثنتى عشرة سنة، وهى أن غالبية «الشغيلة» فى القطاع الذى يستخرج الوقود الأحفورى، ينتمون إلى الشرائح الدنيا فى سلم الاجتماعى تشهد بذلك منازلهم وقراهم وهى غالبا ما تقع فى ذات المحيط القريب من مكان العمل . وكان هناك تصور وربما مازال أن التخلص من إدارة الدولة ليتولاه القطاع الخاص كفيل بنهضته بعيدا عن البيروقراطية والبيرقراطيين الذين غالبا لا يعطون اهتماما كبيرا بضمانات السلامة والالتزام بالمعايير الدولية فى هذا الشأن خصوصا ما هو مطبق فى بلدان الاتحاد الاوروبى التى تسعى تركيا للانضمام إليه. لكن يبدو أن هذا الاعتقاد ثبت فشله أكثر من مرة فى حوادث مشابهة خلال سنوات قليلة مضت، كان الافتقار للقواعد الحمائية سببا رئيسيا إن لم يكن هو السبب الوحيد، بشهادة مؤسسات أوروبية نافذة سبق وحذرت ووفقا لاحدى إحصائياتها أشارت إلى أن مقابل استخراج 100 مليون طن يضيع مقابله 100 شخص وهو الرقم الأعلى بالعالم فى حين ان العدد بدولة كالصين التى جاءت ثانية 37 شخصا فقط لنفس الكمية وبالتالى طالبت بضرورة توافر شروط الأمان بالمناجم إجمالا وهكذا وصمت حكومة أردوغان بأنها الأكثر إهمالا مقارنة بحكومات سابقة. ثم جاءت «المأساة الأدمية» منذ أن عرفت البلاد الطريق إلى المناجم ، وكان مسرحها «سوما» التى لا يتجاوز سكانها التسعين الف نسمة، وبعد أن كان حزب العدالة والتنمية صاحب الطفرة الاقتصادية ها هو يرتبط اسمه بالفاجعة الصناعية الأكبر إيلاما فى وريثة الامبراطورية العثمانية، التى تمثل سلاطينها مصدر فخر لقادته، وهنا أسوق عبارات «فخيمة» لوزير الخارجية أحمد دواد أوغلو أعتبر فيها العدالة والتنمية، ليس مجرد حزب سياسي، بل حركة تاريخية، شأنها شأن السلاجقة والعثمانيين، تمثل بصدق رغبات الشعب التركى وتطلعاته، ثم أشار إلى هذا التلازم الواضح الذى افرزته الانتخابات المحلية الأخيرة بين قدر الحزب وقدر تركيا، والسؤال هل يا ترى وبعد الكارثة التى نعتت بالمذبحة والمجزرة، سيعاود أوغلوا تكرار ما قاله؟ فى الغالب الأعم الإجابة ستكون ب «لا». وتدريجيا بدأت تظهر حقائق ومعلومات إذ كشفا حزبا الشعب الجمهورى والسلام والديمقراطية الكردى النقاب عن استجواب سبق وارسلاه قبل ثلاثة اسابيع للبرلمان للتحقيق فى أسباب الوفيات التى تزايدت فى صفوف العاملين بمناجم مدينة مانيسا المطلة على بحر إيجه غربا والتى تقع بلدة سوما المنكوبة فى حدودها الجغرافية، إلا أن حزب العدالة والتنمية الحاكم رفض قبوله . والمصادفة أن الشعب الجمهورى كان قد تقدم يوم الحادث «الثلاثاء الماضى» إلى رئاسة البرلمان بطلب تشكيل لجنة تحقيق من أجل بحث سلامة وأمن عمال مناجم الفحم، وفى أول تعليق لها قالت صباحات تونجال، رئيسة الحزب الديمقراطى الشعبى إن هذه الحادثة لو وقعت فى بلد آخر لاستقالت حكومتها على الفور. إلا أن أردوغان الذى سارع إلى وصف الانفجار الذى وقع بالمنجم بالحادث الاعتيادى الذى يحدث فى أى منجم بالعالم، واستدل على كلامه بحوادث مماثلة وقعت طوال 150 سنة الماضية، وأخذ يعددها الواحدة تلو الأخرى ولوحظ ان كافة الشبكات الفضائية التى تسيطر الموالية له نحت ذات المنحى وراحت تكرر ها فى نشراتها وبرامجها التحليلية مضيفة من عندها انه القضاء والقدر ولا يمكن تجنيب تركيا منها. فى المقابل حفلت الميديا المناوئة، بمعلومات أشارت إلى ان القائمين على المنجم على صلات بالعدالة الحاكم، وطبيعى اذن ان تمر لجان التفتيش وتخرج بتقارير كل شئ تمام وعلى ما يرام قد يكون الأمر إستباقا للاحداث إلا أن شواهد سوما، وعويل نسائها ونحيب رجالها وصرخات شبابها وتعاطف الملايين فى كل ارجاء تركيا وتصميم قواهم السياسية، على الثأر «للشهداء» كل هذا قد يؤشر على أن اردوغان ربما يصبح صفحة يطويها منجم البلدة الفقيرة إلى الأبد.