السمات الخاصة للساحة الليبية، وقدرات «داعش» هناك، تشير إلى أنه من غير المرجح، بدرجة كبيرة، أن تتمكن قيادة داعش فى العراق وسوريا من استنساخ مشروعها الشرق أوسطى عبر سواحل المتوسط. وإن كان ذلك لا ينفى، بالمقابل، أن داعش فى ليبيا لا تزال تمثل تهديدا، بدرجة أو بأخرى، لدول الجوار الليبى، وكذلك عبر المتوسط، وهو ما يتعين على مصر تشبيك جهود التعاون الإقليمى وعبر الإقليمى لمواجهة هذا التهديد. الحرب الدعائية خلال شهر مارس 2016، نشرت صحيفة «النبأ» الأسبوعية التى يصدرها تنظيم «داعش الأم» بيانات مفصلة عن عمليات التنظيم داخل ليبيا، اشتملت على أهم العمليات العسكرية للتنظيم ضد «تنظيمات جهادية» أخرى، وضد الجيش الليبى فى مدينة درنة، خلال الفترة من بداية ديسمبر 2015 وحتى نهاية فبراير 2016. للوهلة الأولى توحى تلك البيانات التى قدمها «التنظيم الأم» بأن «داعش– ليبيا» تتمدد، فى حين أن حقيقة ما يجرى هناك هو العكس من ذلك تماما، الأمر الذى يعكس رغبة التنظيم فى ممارسة أكبر قدر ممكن من الدعاية، وحاجته الملحة «للبروباجندا» لكى يخفف من وطأة الخسائر التى لحقت به أخيرا. فمثلما فقدت داعش رأس جسرها الساحلى فى درنة، فى يونيو2015، فقدت أخيرا معاقلها فى بنغازى لصالح قوات الجيش الوطن الليبى بقيادة خليفة حفتر. وكذلك خسرت موقعها فى صبراتة لصالح ميليشيات متحالفة مع مصراتة... فى ذات الوقت، فإن السباق على استرداد مدينة سرت ( داعش يسيطر عليها منذ منتصف 2015) بين الجيش الليبى بقيادة حفتر من ناحية، وبين ميليشيات مدينة مصراته من ناحية أخرى، قد بدأت بالفعل... وكلها تطورات تفرض تحديات كبرى على «داعش –ليبيا». قدرات داعش إن أى محاولة للمقارنة بين قدرات داعش فى ليبيا، وقدراتها فى العراق وسوريا، ستكشف عن تفاوت كبير جدا لصالح الأخيرة، سواء من حيث عدد المقاتلين، أو مساحة الأراضى التى تخضع للسيطرة، أو كذلك من حيث مصادر الدخل والقدرات الاقتصادية، وهو ما يمكن تناوله تفصيلا على النحو التالي: أ- حجم المقاتلين تتفاوت التقديرات بشأن حجم داعش فى ليبيا. ففى يناير 2016، أشارت بعض التقديرات الأمريكية إلى أن عددهم قد زاد ليصل إلى ما بين 5 و6 آلاف مقاتل. بينما تعتقد مصادر فرنسية أن عدد عناصر الجماعة يصل إلى 12 ألف مقاتل. وحتى لو أخذنا بأعلى تقدير لعناصر داعش فى ليبيا، يمكن القول إن متوسط عدد مقاتلى داعش فى ليبيا هو نحو 30% فقط من متوسط عدد مقاتلى داعش فى العراق وسوريا، فى بلد تبلغ مساحته أربعة أضعاف مساحة العراق، وثلاثة أضعاف مساحة العراق وسوريا مجتمعتين. صحيح أن تركيز مقاتلى داعش فى ليبيا يعد كبيرا، لكن حجمهم مقارنة بحجم التنظيم فى العراق وسوريا من ناحية، وضخامة ليبيا النسبية من ناحية أخرى، تشكك كثيرا فى قدرة الجماعة على التمدد، من دون التحاق عدة آلاف آخرين بالقوة البرية لها، وهى النقطة التى سلطت عليها الأممالمتحدة الضوء فى تقرير صدر عنها فى فبراير الماضى. ب - أراضى «داعش - ليبيا» خلال العام الماضى أعلنت «داعش» عن إنشاء ثلاث ولايات فى ليبيا، هى: ولاية برقة، ولاية طرابلس، وولاية فزان. إلا أن الواقع الآن يعكس حقيقة أن هذه الولايات هى بالاسم فقط، وأن داعش هناك محصورة فى قطاع ساحلى رفيع على جانبى مدينة سرت، يبلغ إجمالى طوله مائتى ميل. ذلك أن أيديولوجية داعش وأساليبها، أثارت ردة فعل عنيفة من تنظيمات جهادية أخرى، وكذلك ميليشيات وأطراف محلية.... ففى يونيو 2015، شنت جماعة من «الجهاديين»، اتحدوا تحت لواء «مجلس شورى المجاهدين فى درنة»، حملة ضد داعش ودفعوها فى النهاية إلى الانسحاب من المدينة. وأخيرا، أجلى مزيج من القوات بقيادة اللواء خليفة حفتر ودعم من قوات فرنسية خاصة، داعش عن بعض الأحياء فى بنغازي. فى ذات الوقت عصف قصف جوى أمريكى (متبوع بهجوم لميليشيات ليبية) بداعش فى صبراتة. وكانت محصلة كل ذلك، أن تقلص مركز وجود الجماعة فى ليبيا، والمنطقة الوحيدة التى تسيطر عليها وتديرها تقع فى الحد الشرقى لما تسميه «ولاية طرابلس». وتتألف أراضيها من مدينة سرت، وبلدات: الهراوة، النوفلية، وبن جواد، شرق سرت وحتى الحدود الخارجية لأبو قرين غرب سرت. إذن، بشكل إجمالى، ربما تناور داعش فى مساحة تبلغ 4550 ميلا مربعا، وتسيطر على نحو 110 آلاف من ساكنى مناطق سرت. وتمثل تلك المناطق مساحة محدودة جدا بالمقارنة بإجمالى مساحة ليبيا. ج - القدرات الاقتصادية مثلها مثل داعش فى العراق وسوريا، حاولت «داعش – ليبيا» أن تفرض ضرائب فى سرت... وفى هذا السياق تذكر مصادر لداعش أن جميع المحال التجارية فى سرت تدفع ضرائب منذ نهاية أغسطس 2015. بالإضافة إلى هذا، هناك جمارك تُجمع على البضائع والمركبات فى الطريق الساحلى السريع بين شرق وغرب سرت، كذلك الطريق السريع الذى يربط سرت بالجنوب. أيضا، انخرطت «داعش- ليبيا» فى عمليات تهريب، وبيع آثار وتحف. وربما تكون قادرة على الحصول على أموال من كميات صغيرة من النفط الذى تتمكن من الاستيلاء عليه من أنابيب النفط القريبة، ولكنها غير منخرطة بأى حال من الأحوال فى مبيعات نفطية ضخمة. فهناك العديد من الأسباب التى تمنع داعش من استخدام موارد ليبيا النفطية. أولها: أن جماعات قوية أخرى سيطرت على أجزاء مختلفة من قطاع النفط قبل وصول داعش، ومن الصعب على داعش إقصاؤها. ثانيها: أن البنية التحتية النفطية فى ليبيا منتشرة عبر مساحة ضخمة بمنشآت تخزين ومصاف تبعد غالبا مئات الأميال عن آبار النفط. إذن، عمليات داعش فى ليبيا لا تحقق عائدات يُعتد بها، وليست منظمة بنفس درجة تنظيم عملياتها فى العراق وسوريا. وعليه، يبدو من غير المرجح أن تتمكن داعش من استبدال ما خسرته من عائدات عراقية وسورية، بعائدات أخرى من ليبيا. كذلك لا يبدو أن «داعش– ليبيا» ستتمكن وحدها من دعم نفسها. حسابات المستقبل بالنظر إلى أن داعش فى ليبيا أظهرت كفاءة محدودة فى الاستيلاء على أراض، وإدارتها، ولا يمكنها تمويل نفسها، فضلا عن افتقاد ليبيا للبعد الطائفى الذى وظفته داعش بنجاح كبير فى العراق وسوريا.... هناك شكوك كبيرة بشأن مدى «صلاحية» ليبيا فى أن تكون موطنا بديلا لداعش فى العراق وسوريا. لكن ذلك، فى الحاصل الأخير، لا يتعارض مع عدة حقائق، أهمها: u أن داعش فى ليبيا لا تزال الفرع الأقوى لأبوبكر البغدادي. u أن المعركة القادمة من أجل استرداد «سرت» من قبضة داعش، تحتل الآن موقع الصدارة فى المنافسة على النفوذ داخل الحكومة الجديدة للبلاد، تحديدا بين الفريق المؤيد لخليفة حفتر، والفريق الآخر المتحالف مع مصراته. حيث سيضمن المنتصر تحقيق قدرة أكبر على المناورة بشأن النفوذ داخل «حكومة الوفاق الوطني «المدعومة أمميا. ففى الشرق، يستعد حفتر لإرسال المزيد من القوات إلى سرت، خاصة أن قواته تلقت، فى الثالث والعشرين من إبريل الماضى، مركبات مصفحة جديدة، وشاحنات وأسلحة من حلفاء إقليميين. وفى الغرب، تستعد ميليشيات مصراته للتحرك فى اتجاه الجنوب الشرقى نحو «سرت» أيضا. حفتر يعتبر أن تحرير «سرت» وسيلة لاكتساب النفوذ فى الحكومة الجديدة. ويحاول إثبات أنه لا غنى عنه فى عمليات مكافحة داعش، آملا فى الاستفادة من دوره هذا وترجمته إلى وضع رسمى فى حكومة الوحدة... إذ يرغب فى أن يصبح وزيرا للدفاع أو قائدا للقوات المسلحة، بعد أن تم تهميشه لصالح المجلس العسكرى بقيادة وزير الدفاع مهدى البرغوثي. بالمقابل، يخشى المصراتيون من أن دورهم فى الحكومة الجديدة سيتقلص، إذا ما استعاد حفتر المدينة. تعقيدات داخلية المنافسة وعدم الثقة المتبادل تعقدان الاندفاعة نحو سرت، الأمر الذى يجعل المواجهة احتمالا ممكنا، خاصة أن مسلحين مصراتيين وميليشيات محلية موالية لقائد حرس المنشآت النفطية إبراهيم جدران، يتمركزون بين سرت وأجدابية. ويخشون من أنه فى طريقهم إلى سرت، ستسيطر قوات حفتر على بعض أهم البنية التحتية النفطية والغاز الطبيعى فى ليبيا، الأمر الذى سيعزز أكثر من الوضع التفاوضى للواء حفتر. ولاشك فى أن المناوشات المحدودة التى اندلعت بالفعل ( قبل أيام فى محافظة الجفرة) بين الجيش الليبي، وقوات موالية لزياد بلعم قائد مجلس شورى ثوار بنغازي، تعزز من احتمالات اندلاع تلك المواجهة بين الفريقين. u داعش أظهرت بالفعل كفاءة فى استخدام ليبيا لضرب بلدان أخرى، إذ نفذت هجومين كبيرين فى تونس فى 2015، وكذلك هجوما على بلدة بن قردان الحدودية التونسية فى مارس 2016 ، الأمر الذى يشير إلى أن داعش قادرة على التحرك بحرية عبر الحدود. u خلال العامين الماضيين، أثبتت تحقيقات جهاز «الأمن الوطنى» فى مصر أن « داعش- ليبيا» لعبت دورا رئيسيا فى محاولات زرع خلايا إرهابية فى الداخل المصرى، لا سيما فى مناطق: الصحراء الغربية، القاهرة الكبرى (داخل محافظة الجيزة بالذات) ومناطق الصعيد... والشاهد على ذلك تلك الخلية الإرهابية التى جاءت عبر الحدود الغربية وحاولت إقامة معسكر لها فى «جبل ديروط» بالقرب من أسيوط، حيث طاردتها على الفور (فى سبتمبر2015) وحدات من القوات الخاصة المدعومة جوا، وتم تصفية عشرة عناصر، وإلقاء القبص على عنصر آخر على الأقل. u أيضا، يبقى احتمال أن تكون داعش فى ليبيا منصة لانطلاق هجمات فى أوروبا. فقد أظهرت هجمات باريس 2015 أن داعش فى العراق وسوريا قادرة على تحريك أنصارها من وإلى أوروبا، وأنها على الأرجح ستحاول الشىء نفسه فى ليبيا. وفى هذا السياق، حذر وزير الدفاع الفرنسي– فى فبراير الماضى- من مثل هذا المصير. ومع اقتراب أشهر الصيف وهدوء البحر، يصبح عبور المتوسط بواسطة القوارب أسهل، ويُخشى من أن «جهاديين» من ليبيا سيحاولون على الأرجح الاندماج وسط أعداد اللاجئين الذين يتدفقون عبر السواحل الليبية. وهنا لا تحتاج داعش إلى ثلاث ولايات ( بشكل حقيقى) فى ليبيا لكى تفعل هذا. جملة القول أنه من غير المرجح أن تتمكن قيادة «داعش» فى العراق وسوريا من استنساخ مشروعها الشرق أوسطي، عبر سواحل المتوسط، لكن فى ذات الوقت «داعش – ليبيا» لا تحتاج أن تكون نموذجا يحاكى داعش فى العراق وسوريا، لكى تكون خطيرة ومثيرة للاضطرابات فى داخل ليبيا، ولجيرانها، أو عبر المتوسط.