يكمل إحسان عبد القدوس اعترافاته: - ومن يقرأ الطريق المسدود ولا أنام ومجموعة قصص منتهى الحب. وفى بيتنا رجل. يجد انفصال الشخصيتين الأدبية والصحفية قد تحقق إلى حد كبير سواء من ناحية الأسلوب والسرد القصصي. إنها خواطر أو تحليل أو نقد يكتبه واصفاً ما كتبه باعتباره نقداً. مع أن النقد ما يقوم به ناقد آخر لأعماله. أثارت كل هذا فى نفسه القراءة الثانية لقصة: أنا حرة. ومن المعروف أن الكاتب ربما كان آخر من يطالع ما ينشره من أعمال. وعادة ما يتم هذا - إن تم - عند إصدار طبعة جديدة من عمله. وهذا ما فعله إحسان عبد القدوس. يقلل من قيمة المحاولة عدم نشر تواريخ الطبعة الأولى والثانية من الرواية. وعدد السنوات الفاصلة بينهما. عند الطبعة الثانية لاحظ إحسان ما يصفه بأنه شيء غريب: - لقد لاحظت أن الحوار فى بعض فصول القصة مكتوب باللغة العامية، وفصول أخرى مكتوبة باللغة العربية الفصحى جداً. يصف إحسان العامية بأنها لغة. وهو وصف غير دقيق. لأن العامية لهجة من لهجات الفصحي. ومشكلة لغة الكتابة نشأت لديه عندما قرأ قصة عراقية. وكانت بالعامية. ولم يفهم شيئاً وخيل إليه أن قراء العراق لن يفهموا شيئاً من قصته إذا كتب حوارها بالعامية المصرية. واقتنع أخيراً. أنه لا بد من كتابة الحوار بالفصحي. الشيء بالشيء يذكر.. لا يستخدم نجيب محفوظ العامية فى كتابة حوار رواياته وقصصه واستخدم مفردات فصحى حتى على لسان الخادمة والعامل. مما جعل البعض يؤاخذه باسم الواقعية. بل لقد اعترف لى محفوظ أنه عندما كان يكتب سيناريوهات أفلام صلاح أبو سيف، اكتفى بكتابة السيناريو. ورفض أو لم يستطع كتابة الحوار. لأنه لا بد أن يكون بالعامية. ويتوقف إحسان أمام سحر الاعترافات. ويعترف بأنه عندما بدأ نشر قصة: أنا حرة. كان قد نشر حوار الأجزاء الأولى بالعامية. ولكنه استكمل الحوار بالفصحي. ثم يكتب فى لحظة صدق نادرة مع النفس: - وهو خطأ شنيع. فإما أن يكتب حوار القصة باللغة العامية وإما أن يكتب باللغة الفصحي. أما أن يكتب نصفه (عامي) و(نصفه) فصيح. فهذا هو الخطأ الشنيع. ولا يتطرق إحسان للأسباب الحاكمة التى دفعته لهذا الفعل ويصفه بالخطأ الشنيع. وأتصور أن السبب فى هذا أن الأدباء من الصحفيين خصوصاً عندما يكون الواحد منهم مالكاً لصحيفة أو رئيساً لتحريرها. كانوا عندما ينشرون رواية مسلسلة. يكتبونها حلقة حلقة. ولا يقومون بتسليم النص كاملاً قبل النشر. وقد عاصرت بنفسى الكثير من هذه الحالات. ثم يقول إنه بعد أنا حرة تعوَّد أن يكتب قصصه الطويلة بالفصحي. وإن كان لم يستطع لا لعجزه ولكن لأن القصة الطويلة تحتاج إلى جو أكثر من القصة القصيرة. وجو القصة الطويلة لا يمكن أن يحس به القارئ والكاتب إلا إذا أدار الحوار بلهجة أبطالها. ثم يكتب كأنه يسن قانوناً من قوانين الكتابة: - وضعت لنفسى منهجاً فى كتابة الحوار. القصة الطويلة بالعامية. القصة القصيرة: بقدر حاجتها إلى تصوير جو القصة. ثم يضيف سبباً آخر عندما يكتب إن كانت القصة تعتمد اعتماداً كبيرا على تصوير جوها يكتب حوارها بلهجة أبطالها. وإن كانت تعتمد على الفكرة أكثر من الجو يكتب الحوار بالفصحي. ثم يصل إلى احتمال أن يكون أبطال القصة من الأجانب الذين يتكلمون لغة أجنبية. فإن الحوار يكون بالفصحي. لأنه يقع فى ذهن الكاتب والقارئ كترجمة للغة الأبطال. والترجمة تكتب دائماً بالفصحي. وينقل المشكلة لغيره من الأدباء. ورغم ذلك فالأدباء كلهم مازالوا فى حيرة. والمحاولة الوحيدة التى تمت لحل مشكلة الحوار هى محاولة الأستاذ الكبير توفيق الحكيم فى كتابة الحوار بألفاظ منتقاة. تنطق بالعامية والفصحى فى وقت واحد. وهى محاولة لا يملكها ولا يستطيعها إلا من يصل إلى قدرة توفيق الحكيم. ثم يصل إلى قمة اعترافاته، شديدة النقاء: - ولن يلاحظ القراء فى هذه الطبعة من أنا حرة، هذا الخطأ الذى وقعت فيه عندما نشرت الطبعة الأولي. فقد عملت على تصحيح الخطأ. رغم معارضة زملائى الأدباء الذين كان من رأيهم أن أترك الخطأ كما هو على اعتبار أنه من أخطاء شبابى الأولي. وأجمل ما فى الشباب أخطاؤه. والمسألة أبعد من حماقات واندفاعات وأخطاء الشباب. إنها تتعلق بأن النص يبقى ملك صاحبه مادام مخطوطاً. ولكن بعد نشره يختلف الأمر. إن النص يصبح ملكاً للقراء والتاريخ الأدبى وليس من حق المؤلف أن يعدل ويبدل فيه. وحتى العبارة التى كانت تزين الصفحات الجديدة من الكتب: طبعة جديدة منقحة وفيها فصول جديدة. إن هذا من حق الباحث أو الدارس أو المؤرخ. أما الإبداع الأدبي. فليس من حق المبدع الإضافة له أو الحذف أو إجراء أى تبديل أو تعديل بين طبعة وأخري. شجاعة الاعتراف عند إحسان عبد القدوس مثيرة ومبهرة. من يجرؤ على الاقتراب منها الآن؟!. لمزيد من مقالات يوسف القعيد