أربعة آلاف مواطن مصري حررتهم جمعية أهلية واحدة من ذل الأمية, وهي جمعية مصر الخير, كما ورد خبر ذلك بجريدة الأهرام منذ أيام, في إطار مبادرة أطلقتها هذه الجمعية لمحو أمية25 ألف مواطن في8 محافظات. لقد مر هذا الخبر مرور الكرام في زحمة الحمي الانتخابية والصراع العنيف علي السلطة بين قوي الماضي السياسية, وقوي المستقبل الثورية وما بينهما من الطامعين في دولة إسلامية تحكم وفق تفسير ومفهوم خاص للشريعة يناسب جزءا من الرأسمالية العالمية تقنع بقناع الدين ليمرر سياساته التي ما هي إلا تعبيرا عن مصالح اقتصادية أولا وقبل كل شيء, لم نر أحدا من مسئولي هذه الجمعية يتحدثون عن تجربتهم في محو الأمية, ولم نتعرف علي الآليات التي اتبعوها لتحرير أربعة آلاف أمي من قيد الجهل, فالإعلام الحكومي وغير الحكومي مشغول باللقاءات التليفزيونية مع مرشحي الرئاسة وإبراز أن هذا المرشح أو ذاك معه كل المفاتيح السحرية التي سوف تفتح بها الأبواب الموصدة علي مشكلات مصر المتراكمة, عموما, لم يكن هذا مستغربا في ظل مفاهيم سادت منذ عقود مضت في دولة كرست فكرة أن الأمية إنما هي قدر فقراء وبسطاء المصريين, وأنها من الأمور المعتادة التي يجب التعايش معها كبعض الأمراض الجسدية, برغم أن هذه الأمية تزايدت علي نحو طال الأطفال وصغار السن حتي أن المرء لا يصدق أن مصر دولة تجاوزت زمن العقد الأول من الألفية الثالثة. لقد رفعت الدولة الاستبدادية يدها عن محو أمية المواطنين وحرمتهم من حق التعلم والمعرفة منذ عقود طويلة, وتقلص الانفاق الحكومي في مجال التعليم عموما, ولقد حصل المواطن المصري خلال حكم مبارك علي أسوأ خدمة تعليمية عرفتها مصر الحديثة منذ زمن محمد علي الكبير, وكرست الدولة المستبدة زمن المخلوع الحرمان من التعليم كواحدة من أهم آليات القمع غير المنظور للفقراء في الريف والمدن, استنادا الي أن انتشار التعليم والتعليم الأفقي زمن جمال عبدالناصر أضر الفقراء, وأنتج بطالة بين المتعلمين وأضر الدولة ولم ينفعها, بل أهدر أموالها وهو ما تكذبه الحقائق الموجودة علي الأرض, فالانفاق علي التعليم الأفقي أنتج خبرات بشرية شكلت الغني الحقيقي للإنسان المصري سواء داخل مصر أو في المحيط العربي, بل حتي في المحيط العالمي. لم تطرح الأمية كإشكالية محورية تستلزم الاهتمام والرعاية وتعطي لها الأولوية كأهم معوق لأي مشروع نهضوي تتطلع إليه مصر بعد ثورة25 يناير2011, وبدلا من انشغال البرلمان الذي تشكل بأصوات الفقراء الأميين بمسألة الأمية, وكيفية مواجهتها, انشغل أعضاؤه بمسائل وهواجس الشهوات وقضاياها, فأصبحت مسألة إغلاق المواقع الإباحية أهم من مشكلة الأمية وخفض سن زواج الفتيات أهم من مشكلات التعليم, والذين ينادون بتطبيق الشريعة, تناسوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام اشترط محو أمية عشرة لقاء فك أسير, وأن أول ما نزل من القرآن الكريم هو كلمة اقرأ. تنفق مصر ومنذ عقود مليارات الجنيهات علي كرة القدم ومسلسلات التليفزيون والإعلانات والمهرجانات تحت دعوي الحداثة, ومواكبة العصر, وها هي تنفق مليارات أخري لأجل الصراع علي السلطة والوصول الي كرسي الرئاسة, ولو أن هذه المليارات انفقت علي محو الأمية التي هي شرط كل حداثة حقيقية ومعاصرة لأية أمة من الأمم, لاختلفت أشياء كثيرة في مصر ومنها المسألة الديمقراطية, لأن الأمية وانتشارها الواسع في الريف والمدن التي تشهد نزوحا دائما إليها من الأقاليم الفقيرة, هي المعوق الحقيقي لأية تحولات ديمقراطية حقيقية, فصندوق الانتخاب ليس هو الطريق الحقيقي لأية ديمقراطية, بل الصوت الانتخابي الذي سوف يدخل الي الصندوق هو الأساس, وطالما ظل هذا الصوت رهين الجهل وعاجزا عن اختيار قائم علي الوعي والفهم من خلال التعليم, فلا أمل في الديمقراطية. لا أصدق مرشحي المرجعية الإسلامية ولا فلول النظام البائد, برغم كل ما تحويه برامجهم من كلام كبير عن التغيير في مصر, وذلك لأن كل صاحب عقل نابه, وكل ذي بصيرة تشهد, يتساءل عن ذلك الهدر العجيب في المال والذي ينفق علي الدعاية الانتخابية وكأننا لسنا في مصر, بل في أمريكا, وكأن مصر ليست بلدا فقيرا مريضا يحتاج الي كل قرش والي كل مليم, كي ينفق لمواجهة الجوع والمرض والجهل. ألف باء الشريعة فعل الخير, وألف باء الوطنية هو النظر بجدية الي مشكلات أهل الوطن, والحلال بين والحرام بين وبينهما متشابهات, ومن المتشابهات هدر المال علي الكراسي, والمرائي دون انفاقه علي حصير يجلس عليه فقراء أميون ليتعلموا حتي ولو في كتاب.