كأنها ليست مجرد مصادفة طيبة أن تظهر هذه المقالة صباح اليوم الذي خرج فيه ملايين المصريين ليختاروا رئيسهم الجديد لأول مرة بطريقة ديمقراطية, وإنما هي تدبير يبدو كأنه مصادفة, لأن وراء كل مصادفة خيوطا خفية لو رأيناها أدركنا أنه لا وجود لما نسميه مصادفات. فلنقل إذن إنها مصادفة مدبرة قصد منها أن أتوجه للناخبين بما ينبغي علي الكاتب أن يتوجه به لأمته في ساعات الفصل ومواقف الاختيار. وعلينا أن نعترف من البداية بأن اختيار رئيس لمصر الآن أمر في غاية الخطورة من ناحية, وفي غاية الصعوبة من ناحية أخري, الخطورة, لأن الرئاسة منصب رفيع ومسئولية عظمي. فالرئيس مسئول عن حماية بلاده وخدمة شعبه, وهو لا يعمل وحده, ولا يختار لنفسه, ولا يتحرك في مجال دون مجال. وإنما يعمل مع غيره, ويختار لوطنه ومواطنيه, ويتحرك في الداخل والخارج, في المدن والقري, في حقول الانتاج وساحات القتال يؤمن حياتنا, ويلبي حاجاتنا, خاصة في هذا الوقت الفاصل الذي تخرج فيه مصر من عهد لعهد ومن نظام لنظام آخر. ونحن الآن أمام تصورين مختلفين اختلافا جوهريا للعهد الذي كنا فيه وللعهد الذي يجب أن ننتقل إليه. التصور الذي تقدمه لنا جماعات الإسلام السياسي وتري فيه أن مصر في العهد الذي ثرنا عليه كانت تعيش في جاهلية تحتاج فيها إلي فتح جديد يعيدها إلي الإسلام. ومن هنا يختار الإخوان المسلمون والسلفيون ومن لف لفهم أساليبهم في الدعاية, ويقدمون وعودهم للناخبين. فالناخب لا يختار سياسة من سياسات أو خطة اقتصادية من خطط, وانما يختار الجنة إذا صوت للإخوان والسلفيين أو النار إذا صوت لغيرهم. باختصار, الإخوان والسلفيون يتحدثون إلينا في هذه الانتخابات وكأن هذه الدنيا وهذه البلاد وهذه الأيام التي نعيش فيها لا تعنينا في شيء, ولا يهمنا أن نتمتع فيها بما تتمتع به الأمم الحرة المتقدمة, وكأننا سنموت كلنا غدا, نحن المصريين بالذات, فهمنا الأول هو البحث عن رئيس يضمن لكل منا مكانا في الجنة! وأما التصور الآخر فيقدمه لنا بعض المرشحين الذين يعيشون معنا في هذا العالم ويعرفون أننا لم نثر علي نظام مبارك لأنه كان نظاما جاهليا, فالواقع أن المصريين لم يعرفوا الجاهلية طوال تاريخهم, وأنهم كانوا دائما متدينين وكانوا دائما مخلصين لعقائدهم الدينية. وهذا ما كان حكامهم يستغلونه أسوأ استغلال, فيستخدمون الدين ورجاله في قهر المصريين واسكاتهم عملا بالفتوي السلفية التي تري أن تحمل ظلم الحاكم الظالم أهون من الخروج عليه! هكذا كان الدين, أو علي الأصح رجاله والمتاجرون به, ومنهم هذه الجماعات عونا للطغيان والفساد. لقد وقف الإخوان المسلمون مع إسماعيل صدقي حين أوقف العمل بدستور سنة3291, وكانوا عنصرا مساعدا في انقلاب يوليو عام2591, ثم تحالفوا مع السادات في مواجهة خصومه, ثم تعايشوا مع حسني مبارك الذي أفسح لهم في النشاط الاقتصادي, ومكنهم من السيطرة علي التعليم الديني والتعليم المدني والتسلل إلي مؤسسات الإعلام وساحات القضاء, ومنحهم ربع مقاعد مجلس الشعب, وهذا هو الفساد الشامل الذي ثرنا عليه. فإن كان الدين قد استغل في هذه العهود وتاجر به بعضهم ووظفوه في غير ميدانه فالجماعات الدينية شريك أساسي في هذه التجارة التي آن لنا أن نحرمها بالتمييز الحاسم بين ما يجب للدين وما يجب للدنيا. وعلي هذا الأساس ننظر في برامج المرشحين للرئاسة وننتخب الرئيس الذي يحترم حقوقنا, ويعرف مطالبنا, ويسعي في تلبية حاجاتنا وحل مشكلاتنا الموروثة والمكتسبة. نحن نريد من الرئيس القادم أن يبدأ معنا عهدا جديدا نخرج فيه من ديكتاتورية يوليو العسكرية التي لاتزال قائمة حتي الآن, ومن وصاية الجماعات الدينية وسيطرة الأغنياء الجدد واحتكارهم للبر والبحر والسماء والهواء! نريد من الرئيس القادم أن يخلص للدولة المدنية وللنظام الديمقراطي, ويخرجنا من الفقر والجهل والمرض والقذارة والفوضي والتخلف والفساد بخطط مدروسة قابلة للتنفيذ, وتلك هي النقلة المنتظرة. لا نريد زعيما مؤلها ولا فضيلة مرشد يضمن لنا الجنة لأنه لا يستطيع أن يضمنها لنفسه, فهو أعجز من أن يضمنها لغيره. والمرشحون الذين لايقدمون في برامجهم الا وعدا بتطبيق الشريعة, ولايميزون فيها بين الوسائل والغايات, ولا بين الوحي الإلهي وبين فهمه وتفسيرة وتأويله ليوافق اختلاف العصور وتطور المجتمعات وتفاعل الثقافات. هؤلاء يحاربون العقل, ويكرهون التطور, ويسعون لهدم كل ما بنيناه في تاريخنا الحديث ويحبسوننا من جديد في ماض يستغلون أمية الأميين ويقدمونه لهم في صورة الفردوس, مع أنه كان أبأس من الحاضر ألف مرة. وإذا كان هؤلاء قد يئسوا من علاج الحاضر المريض فكيف يستطيعون احياء الماضي الميت؟ أليس هذا هو ما أعلنه مرشحهم الذي وقف في الأيام الماضية يتحدث عن إعادة فتح مصر؟! ألا يعني هذا أنهم يعتبرون كل ما جد في حياتنا خلال القرنين الأخيرين خروجا علي الإسلام؟ الانتماء الوطني كفر. والديمقراطية وثنية, وحقوق الإنسان زندقة. ومساواة المرأة بالرجل تهتك. وعدم التمييز بين المسلمين والمسيحيين إلحاد. والمرشح النحرير قادم إذن ليهدم هذه الأصنام التي صنعتها النهضة المصرية الحديثة ويعيدنا إلي ما كنا عليه عبيدا للسلطان الذي يستطيع أن يغير اسمه فيسمي نفسه رئيسا ويظل سلطانا ويظل طاغية, كما استطاعت جماعته أن تسمي انقلابها علي النهضة نهضة, وسرقتها للثورة ثورة, وشراءها لأصوات الأميين والجوعي ديمقراطية! لا! كفانا عسكرا. وكفانا سلاطين! وكفانا كهانا وتجار أديان, فقد عشنا في ظل هؤلاء وهؤلاء آلافا من السنين فقدنا فيها كل شئ حتي عجزنا عن الاحتمال فثرنا وأصبح من حقنا الآن أن نعيش في الحاضر لا في الماضي, في الحرية لا في العبودية, في العدل لا في الظلم, في الكرامة لا في المهانة, في العلم لا في الخرافة, وفي الجمال لا في القبح, وفي السعادة لا في الشقاء. فمن هو المرشح الذي يستعيد لنا نهضتنا المعتقلة, ويرد لنا حقوقنا المستلبة, ويضعنا من جديد علي طريق التقدم والرخاء؟ لقد قلت إن اختيار رئيس لمصر الآن أمر في غاية الخطورة وفي غاية الصعوبة, وقد تحدثت فيما سبق عن خطورة هذا الأمر. وبقيت صعوبته التي لا تحتاج في بيانها إلا لأن ننظر في المرشحين لنري أننا لا نعرف لأي منهم تجربة في العمل السياسي الجماهيري تكشف لنا عن أفكاره وخبراته وطاقاته ومواهبه كما هي الحال في البلاد التي تعيش في النظم الديمقراطية. لقد عشنا نحن ستة عقود حتي الآن حرمنا خلالها من النشاط السياسي الحر, ولم يكن أمامنا فيها إلا خيارا من اثنين: الانسحاب من النشاط العام, أو دخول المعتقل. غير أن هذا لا يعفينا من اختيار رئيس لمصر, فكيف نختاره؟ إذا كان القارئ معي في الشروط التي يجب أن تتوافر في الرئيس القادم وفيما ننتظره منه فما عليه إلا أن ينظر في برامج المرشحين وفي سيرهم ليختار أقربهم للمثال الذي نتطلع إليه. إنها سنتنا الأولي في الديمقراطية, أو جمهوريتنا الثانية كما يسميها عمرو موسي في برنامجه. وعلينا أن نعبرها بنجاح. والا سقطنا في الطغيان من جديد! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي