شهد عام1908 أول طرح للفكر التعاوني في مصر. وكان ذلك عندما قدمه المفكر عمر لطفي كأحد الحلول أمام الزراعة المصرية وكأسلوب لحماية المزارع المصري الصغير والمتوسط. حينذاك, ولم تكن الدولة المصرية خارج السياق العالمي. . فبدءا من العقد الثمانيني من القرن التاسع عشر حتي عشرينيات القرن العشرين ارتفعت ذات الدعوة في إندونيسيا وكوريا واليابان وفيجي وأسبانيا وإيطاليا وأستراليا والهند. واتجهت الدعوة في الأساس إلي التعاون الزراعي. في فيجي علي سبيل المثال بدأت التنظيمات التعاونية لتنظيم منتجي زراعات الموز, ثم اتسعت لتتأسس من قبل منتجي الألبان. في عدد من البلدان بدأت التعاونيات في العمل حتي قبل أن تتدخل الدولة بقانونها. وكان لكل بلد مساره الخاص في تجاربه التعاونية. كما في مصر, بعد عام1908 تأسست أولي الجمعيات التعاونية الزراعية في قرية شبرا النملة في مديرية الغربية. ثم تلاها قيام عشر تعاونيات زراعية أخري في عشر قري في المديرية ذاتها مما دفع الدولة لإصدار أول قانون للتعاون عام1923 تلاه قانون ثان عام1927 يدخل تعديلات علي القانون الأول. المهم أن قانوني كل من عامي1923 و1927 أعطيا الحق للتعاونيات الزراعية لتيسير القروض الزراعية للمزارعين بفوائد محدودة ومنح مزايا للجمعيات بالنسبة للرسوم التي يدفعها المزارع. ولكن استمرت الحركة التعاونية الزراعية تواجه المصاعب الجمة من قوي سياسية مصرية كثيرة, منها السراي التي كانت تمتلك مساحات واسعة من الأراضي الزراعة ومنها كبار ملاك الأرض ومنها بنوك الائتمان الزراعية التي كانت مملوكة من الأجانب. فالتعاونيات الزراعية بالتحديد وإن كانت تقدم حلولا للقضية الزراعية إلا أنها تؤسس في تجميعها للمزارعين الصغار والمتوسطين حركة فلاحية جمعية قادرة علي التصدي لكل من يقترب من استغلال الفلاح الصغير والمتوسط. لذا يمكن القول إن فكرة التعاون الزراعي وجدت وسط الفلاحين المصريين وعاشت في ذاكرتهم إلا أنها لم تحصل علي الحماية أو التشجيع الكامل من الدولة وأجهزتها التي كانت تخضع في النهاية لكل هذه القوي السياسية الرافضة لفكرة تمكين الفلاح المصري. والغريب انه حتي لحظتنا هذه لا يمكن لباحث تعاوني إلا أن يذكر اسمين اثنين لمفكرين مصريين عاشا وماتا يعملان من أجل قيام حركة تعاونية زراعية إنتاجية مصرية تخدم الفلاح الصغير والمتوسط وتقدم الحلول لمشكلات الزراعة المصرية, هما عمر لطفي وإبراهيم رشاد. كان نتيجة ذلك أن التعاون الزراعي الإنتاجي نما في بلدان نامية كثيرة سمعت عن الفكرة في زمان يقترب كثيرا من الزمان الذي تعرفت فيه مصر علي فكرة التعاونيات الزراعية حتي باتت التعاونيات الزراعية في هذه الدول مكونا أساسيا من مكونات الملكية الشعبية أو الملكية الاجتماعية كما يفضل البعض تسميتها, في حين أن في مصر, فقد استمرت تمر بذات الأمور الأخري بلا سياسات ثابتة تطرح استراتيجيات محددة. في البلدان الأخري حصلت التعاونيات علي مساندة وتشجيع الدولة في حين استمرت التعاونيات في مصر خاطرا مهما في تفكير العديد من مفكرينا الزراعيين المصريين., وفقط. ولكن حدث تحول إيجابي عام1952 مع صدور قانون الإصلاح الزراعي رقم.178 مع صدور هذا القانون حصل التعاون الزراعي علي فرصة للنمو والتأثير في الزراعة المصرية. في المناطق والقري التي وزعت فيها الأراضي علي أجراء الزراعة تأسست تعاونيات الإصلاح وفي القري التي لم يكن لها نصيبها من التوزيع تأسست تعاونيات الائتمان. وباتت فكرة تنظيم الزراعة المصرية تسير خطوة بعد الأخري. في عام1957 نظم مشروع تنظيم الاستغلال الزراعي في قرية نواج في مديرية الغربية ثم تطورت التجربة ليتم تعميمها عامي1965 و1966 في كل المناطق الريفية الزراعية ولكنها حملت هذه المرة تسمية تنظيم الإنتاج الزراعي. في هذه المرحلة تعرف الفلاح الصغير والمتوسط علي الدورة الزراعية الثلاثية التي كانت تقودها التعاونيات, تنفيذا لسياسات الدولة, كما تعرف المزارع علي فكرة العمل المشترك الجماعي في الري وجمع المحاصيل. كما تعرف بعد ذلك علي المرشد الزراعي الذي كان يقود فكرة إدخال التقنيات الجديدة علي المحاصيل ويدرب المزارع علي استخدام المبيدات. ولكن من أهم الأمور التي تحققت مع تطبيق مشروع تنظيم الإنتاج الزراعي أن تطبيق الدورة الزراعية الثلاثية ساعدت علي التغلب علي أهم أمراض الزراعة المصرية وهي التفتت الحيازي. ولكن حدث بعد ذلك ما يحدث دائما بالنسبة للمشاريع التي تتبناها الدولة في عصر ما.. أو عصر فلان.. أو تتبناها في سياق سياسة عامة مجتمعية معينة. في عام1976 ألغت الدولة الدورة الزراعية الثلاثية وبدأت في إعداد الريف لسياسات الإصلاح الاقتصادي الجديد وإدخال علاقات السوق إلي الزراعة المصرية. وبالتالي ضيقت الخناق علي تلك الهياكل التعاونية التي كانت تقف بجانب الفلاحين والحائزين الصغار والمتوسطين. والأهم من كل ذلك هو أن الدولة المصرية اتبعت ذات الأسلوب الخاطئ الذي تتبعه دائما, وهو الذي لا يسمح بالتجربة الواحدة, في أي مجال من مجالات العمل الاقتصادي الاجتماعي, من الاستمرار لفترات طويلة تسمح لها بالنمو والنجاح أو التعديل في المسار. فالتعاونيات الزراعية بدأت مباشرة بعد عام1908 ثم تقطع تواصلها ثم بدأت مرة أخري مع صدور قانون الإصلاح الزراعي عام1952 لينقطع تواصلها مرة أخري عام.1976 مما أدي إلي ذلك التذبذب الحالي الآن في السياسات الزراعة وفي تعاظم مشكلة التقزم الحيازي وفي ظهور هذه الاختناقات في سلة الغذاء المصري وفي زيادة عدد الفقراء المصريين وتمركزهم في محافظات زراعية بذاتها. في المقابل نتجه إلي أسبانيا التي كانت إلي سنوات قليلة من الدول النامية والتي بدأت فيها أولي النداءات الاجتماعية المطالبة بقيام تعاونيات زراعية عام1886 أي قبل نحو عشرين عاما من مثيلتها في مصر. بدأت أول التعاونيات في عام1886 وكان عددها ست تعاونيات ثم أصدرت الدولة أو قانون يشجع قيام حركة تعاونيات في أسبانيا عام.1906 بعد صدور هذا القانون قفز عدد التعاونيات من ست تعاونية إلي عدد1,772 تعاونية. أما الآن فإن التعاونيات الزراعية الاسبانية تنتج45% من الألبان واللحوم البيضاء والحمراء و35% من إنتاج الحبوب و45% من إنتاج الموالح و35% من إنتاج الفواكه وقد سارت شوطا في التصنيع الزراعي فباتت تنتج الزيوت ومنتجات الكروم. وهكذا أدي التواصل في مسار التعاونيات إلي الوصول إلي تلك النتائج الإنتاجية الجيدة. المزيد من مقالات أمينة شفيق