مثلما انتظر المصريون، لعقود طويلة، حزبا أو قائدا سياسيا يقودهم للتغيير، حتى استطاعوا أن يتجمعوا وحدهم بشكل تلقائى وينظموا أنفسهم فى ثورة شعبية تعد الأهم فى التاريخ المصرى، ربما يستطيع المصريون أن ينقلوا نفس الفلسفة من ميدان التحرير إلى ميادين الاقتصاد، من خلال تنظيم الكيانات الصغيرة والملايين من العاطلين والفقراء أنفسهم فى كيانات ضخمة تعمل لتحقيق مصالحهم، وهو ما يعرف بالمؤسسات التعاونية. وبالرغم من أن تجربة التعاونيات فى مصر ترجع إلى أكثر من مائة عام، وأن بعض المؤسسات التعاونية لا تزال نلمس دورها فى حياتنا اليومية مثل محطات التعاون للبنزين والجمعيات الاستهلاكية، إلا أن دور النشاط التعاونى فى مجمل الاقتصاد المحلى يعد متواضعا. فرص الصغار فى عالم الكبار فى بلد مثل مصر حيث تمثل المنشآت المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر حوالى 99% من مشروعات القطاع الخاص غير الزراعى، وحيث إن 42% من مجمل السكان تحت خط الفقر وشرائح أخرى كبيرة من أصحاب المعاشات والأرامل وغيرهم معرضة للسقوط تحت هذا الخط، فإن تنظيم تلك الشرائح الضخمة فى كيانات كبيرة من خلال العمل التعاونى قد يكون خطوة بالغة الأهمية على طريق التنمية فى مصر»، كما ترى هبة الليثى، رئيسة قسم الاحصاء بجامعة القاهرة. وتعد التعاونيات «الفرصة المتاحة للصغار فى عالم يسوده الكبار»، وهو التعبير الشهير الصادر عن مؤسسة روشدال بايونيرز البريطانية، التى تأسست فى القرن التاسع عشر وتعد من الرواد فى هذا المجال على مستوى العالم. وهذا الفكر نجحت دولا مثل الهند فى تطبيقه، حيث استطاع منتجون صغار فى قطاعات مختلفة هناك أن يؤسسوا من خلال النشاط التعاونى كيانات اقتصادية ضخمة ساهموا من خلالها فى تحسين دخول قطاعات واسعة من المجتمع وقدموا ايضا مساهمة مهمة للاقتصاد، حيث تشير إحدى الدراسات إلى أن النشاط التعاونى فى الهند يساهم فى إنتاج 46.2% من مجمل السكر هناك، و50% من انتاج غذاء الحيوانات، و26.5% من إنتاج الاسمدة. وتعد تجربة مؤسسة «امول» الهندية واحدة من أنجح التجارب التعاونية على مستوى العالم، حيث تأسس هذا الكيان على اكتاف صغار منتجى الألبان فى مقاطعة كاريا بولاية جوارات والذين كانوا يعانون فى الاربعينيات من ممارسات احتكارية لشركة توزيع كبيرة للالبان هناك، إلى أن توصلوا لفكرة إنشاء الكيان التعاونى الذى يمكنهم من القيام بمهام تلك الشركة الكبيرة وتوفير ارباح اكبر للمنتجين الصغار وذلك فى عام 1946. ومع نجاح الفكرة انتشرت تجارب مماثلة فى باقى الولاية حتى تم تكوين اتحاد واحد لتلك التعاونيات فى عام 1973، وفى عام 2009 2010 حققت «أمول» مبيعات وصلت إلى 1700 مليون دولار، وتضم حاليا نحو 2.9 مليون منتج للالبان، وتصدر منتجاتها للعديد من الاسواق الكبرى كالولايات المتحدة والصين وجنوب افريقيا. وتذكر دراسة للبنك الدولى أن 60% من المنتفعين من تلك المؤسسة كانوا من المزارعين الصغار والمهمشين. صعود وهبوط التعاونيات فى مصر وفى مصر كانت أول شركة تعاونية زراعية قد أنشئت عام 1910، وبدأت الجمعيات التعاونية تحقق نموا كبيرا منذ هذا التاريخ حتى بلغ عدد الجمعيات المسجلة 297 جمعية بحلول عام 1930. «لقد كان الاتجاه لإنشاء الجمعيات الزراعية هدفه توفير مدخلات الانتاج للفلاحين بالسعر المناسب، بدلا من استدانتهم من البنوك الأجنبية وحصول تلك البنوك على الاراضى الزراعية مع تعثر الفلاحين، لذا اعتبر المصريون تأسيس تلك الجمعيات عملا وطنيا، وكان السياسيون الوطنيون ينشرون الوعى بين البسطاء لتأسيس تلك الجمعيات»، بحسب مجدى سعيد، باحث فى مجال التنمية ومؤلف كتاب «الحركة التعاونية..الطاقة التنموية المهدرة». ويشير سعيد إلى أن تجربة التعاونيات فى مصر توسعت فى مجالات عدة كان الهدف المشترك بينها هو تخفيف اعباء المعيشة على المواطنين من خلال الجهود الأهلية، حيث ظهرت تعاونيات استهلاكية أسسها موظفون بهدف شراء منتجات البقالة بأسعار منخفضة، وتعاونيات بين الصناع والحرفيين لشراء مستلزمات الانتاج بأسعار أقل، وانتشرت فكرة الإقراض التعاونى بمعنى توفير القروض الميسرة لأعضاء الجمعية التعاونية وهى الفكرة التى أصبح لها انتشار واسع فى العالم فى الوقت الحالى، بحسب سعيد. إلا ان مشكلة التعاونيات فى مصر بدأت بعد ثورة يوليو، برأى سعيد، حيث سعت الدولة لضم الجمعيات التعاونية وجعلها تحت إشرافها ودمجها فى الخطة الاقتصادية للدولة «لقد كان ذلك جزءا من السياسة المركزية التى اتبعتها الحكومة آنذاك فى المجالات المختلفة»، كما يشير سعيد إلى أن إلزام الدولة وقتها للفلاحين الحاصلين على خمسة أفدنة ضمن قانون الاصلاح الزراعى الدخول فى تلك الجمعيات ساهم أيضا فى إضعافها نظرا إلى أن فكرة العمل التعاونى تقوم على أنه «عمل طوعى». ويشير تقرير لمركز الأرض الحقوقى حول تجربة التعاونيات الزراعية فى مصر إلى أنه «بالرغم من فرض الدولة وصايتها على تلك الجمعيات خلال الستينيات إلا انها كانت تديرها وفق سياساتها التى كانت تراعى الأبعاد الاجتماعية للفلاحين، ولكن مع تحول السياسات نحو الاقتصاد الحر انهارت المؤسسات التعاونية»، بحسب التقرير، معتبرا أن «المنظمات التعاونية الزراعية تُركت أسيرة لإدارات بيروقراطية متحجرة متمسكة بتشريعات جامدة كرست اليد القوية للسلطة وموظفيها فى الإشراف والتوجيه». تحرير قطاع التعاونيات ويطالب سعيد بتحرير نشاط التعاونيات فى مصر من سيطرة الدولة، مؤكدا أن ارتباط هذا النشاط بالدولة قيده بدرجة كبيرة، فمن ناحية تواجه التعاونيات عوائق عدة للحصول على التراخيص بدلا من ان يكون تأسيسها بمجرد الإخطار. كما أن تحويل التعاونيات إلى إحدى أدوات جهاز الدولة جعلها تعتمد اعتمادا كليا على دعم الدولة لها باعتبار أن التعاونيات، وعلى الأخص التعاونيات الزراعية والاستهلاكية فى مصر، كانت مسئولة عن تنفيذ خطة الدولة، وتخضع خضوعا كاملا للإشراف الإدارى، مشيرا إلى وجود العديد من الجهات الإدارية المشرفة على الحركة التعاونية بحسب اختصاص كل مؤسسة تعاونية، كوزارات الزراعة والتجارة، والإسكان والتعليم، والتنمية المحلية، بل إن الاتحاد العام للتعاونيات فى مصر يتبع إداريا رئيس مجلس الوزراء، الأمر الذى أدى إلى «تسرب أمراض الفساد والبيروقراطية إلى داخل التعاونيات». ويقارن سعيد بين التجربة المصرية والهندية فى التعاونيات «بينما تعمل التعاونيات الزراعية فى مصر على توزيع الأسمدة على الفلاحين، تعمل التعاونيات الزراعية فى الهند على إنشاء مصانع تنتج الأسمدة وتبيعها للفلاحين». وتؤكد الليثى قدرة النشاط التعاونى على مكافحة الفقر فى مصر إذا تم إحياؤه مجددا، «مهما كانت قدرات الدولة كبيرة، فهى لا تستطيع أن تصل إلى الفقراء بالكفاءة التى يستطيع النشاط التعاونى أن يحققها، لأنه يؤسس على مستوى القرى والوحدات الصغيرة وبالتالى فهو إدرى بظروف الفقراء فى كل منطقة والأنشطة الاقتصادية الملائمة لهم».