بينما تتأهب مصر لانتخاب أول رئيس بعد ثورة يناير, نجد الفرصة سانحة لمصارحة شاب الثورة من غير الاتجاهات الإسلامية- ببعض حقائق التاريخ, لعلها تساعد في التفكير حول إعادة رسم مسارات الطريق الثوري باتجاه المستقبل. لقد كانت ثورة القاهرة الأولي والثانية ضد الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ثورة شعبية بقيادة بعض شيوخ الأزهر والتجار, وكذلك كانت الثورة التي قامت ضد الوالي التركي خورشيد باشا, بقيادة عمر مكرم, وفرضت تنصيب الجندي الألباني محمد علي, واليا في عام1805, والذي سرعان ما قام بتصفية القيادة الشعبية واستأثر بالحكم ليقيم شبه إمبراطورية عسكرية بأذرع الفلاحين المصريين. وقامت الثورة العرابية في مواجهة إرث( دولة محمد علي) داخل الجيش خصوصا, والمجتمع المصري عموما, بقيادة الضابط أحمد عرابي, سليل الفلاحين من( أولاد العرب), تحيطه كوكبة من رواد الحركة الوطنية, من أبرزهم محمد عبده, وعبد الله النديم. وجري الاحتلال البريطاني لمصر عام1882 ليتولي محاولة( تصفية الثورة) كتيار سياسي واجتماعي, حتي تم فرض الحماية البريطانية علي مصر مع بداية الحرب العالمية الأولي عام.1914 ومع نهاية الحرب العالمية الأولي, اندلعت أحداث( ثورة1919), وركب سعد زغلول قمة الموجة الثورية بجدارة لعدة سنوات. هكذا نجد أن النويات الشعبية الثورية العابرة للطبقات الاجتماعية, وفي صدارتها نخبة متعلمة كمشروع لطبقة وسطي( تحت التأسيس), إذا صح هذا التعبير, هي التي قادت الهبات والثورات المصرية الحديثة, بمساندة قيادية- منذ أوائل القرن العشرين- من بعض( كبار الملاك) و(كبار رجال الدولة السابقين). وإن تلك التشكيلة الاجتماعية المضطربة-ذات الطابع الوسطي- هي التي قادت الحركة الوطنية خلال ثلاثين عاما, منذ1922 حتي1952 لولا أن شريحة جديدة رفدت نواة الطبقة المتوسطة خلال تلك الفترة من بين الطلبة والعمال وبعض موظفي الدولة وضباط الجيش( المصري) الوليد; بالتوازي مع اليقظة القومية العربية في مواجهة الاستعمار الأوربي وتصاعد المشروع الصهيوني في فلسطين. كان قيام ثورة23 يوليو1952 إيذانا بولادة قيادة جديدة من رحم الطبقة الوسطي, ولكن بوجه جديد تماما. كما أن الوجه الذي ظهر لثورة23 يوليو كان مختلفا عن ذلك المنحي الذي تسيد المسرح الفكري قبل الثورة, بالدعوة إلي التحديث علي النسق الأوربي والاحتفال المجرد بالحريات السياسية والمدنية. كانت ثورة يوليو بقيادتها المدنية الجديدة, ذات الأصول العسكرية الوطنية, وبقائدها الوطني الشعبي( جمال عبد الناصر) قد بلورت نهجا جديدا لدور الطبقة المتوسطة في النضال الوطني والاجتماعي في مصر والمنطقة العربية. إنه النهج القائم علي التحرر الوطني من الاستعمار وأذنابه, وعلي تبني مشروع الوحدة العربية, ومشروع التنمية الاقتصادية والصناعية, والتطور الاجتماعي-الثقافي, بروح مرحلة( ما بعد الاستعمار) علي المستوي المصري والعربي العام. كان بناء الديمقراطية في الواقع بمثابة( قضية مؤجلة) في ظل الصراع الضاري الذي خاضته الثورة من داخلها ومن خارجها, حول المسألة الشائكة في جميع الثورات( مسألة السلطة) والتي لم تنجح ولا ثورة منها في حلها بالشكل الذي يرضي الشعوب الطامحة إلي حكم نفسها بنفسها بالفعل, بعيدا عن الاكتفاء بالممارسات النيابية والتمثيلية وبالقشور الانتخابية المعهودة. اصطدمت قيادة الثورة بمقاومة بقايا الإقطاع الزراعي وببقايا المشروع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين واصطدمت بالجفاء والفجوة بين الثورة والمثقفين واصطدمت الثورة أيضا بسياسات بعض الدول العربية المرتبطة بالمحاور الغربية مما ظهر في التشجيع علي( الانفصال السوري) وتصاعد( حرب اليمن). كما اصطدمت الثورة بالمشروع الصهيوني الذي بيت النية علي العدوان المسلح علي مصر ونفذه بالفعل صبيحة الخامس من يونيو1967, مستغلا ثغرات البنيان السياسي والعسكري. وقد استطاعت مصر إعادة بناء القوات المسلحة, و خاضت(حرب الاستنزاف) وتم وضع خطة حرب قائمة علي( الصواريخ) وعلي عبور المانع المائي لقناة السويس; وهي الخطة التي تبلورت فيما بعد, ثم طبقت بالتعاون بين مصر وسوريا في السادس من أكتوبر.1973 كان أكبر إنجاز اجتماعي لثورة يوليو بين1952 و1970-هو تبلور الطبقة المتوسطة, وإدخال العمال والفلاحين إلي ميدان الممارسة الاجتماعية بصورة موسعة وفعالة. ورغم الأصول الاجتماعية الوسطي لنخبة الثورة وقائدها, وبرغم انحرافات المسار السياسي لنظام الحكم في لحظات معينة, وتأجيل الحسم الديمقراطي لمسألة السلطة الشائكة, فقد رسخت القلب الوطني والقومي والاجتماعي للثورة, في مواجهة الاستعمار القديم والاستعمار الجديد والمشروع الصهيوني; كما أكدت طبيعتها كثورة من أجل التحرر والتنمية والوحدة العربية. وقد اشتد قوام الطبقة الوسطي وازداد كثافة وتماسكا خلال الأربعين عاما التالية لثورة يوليو, أي منذ وفاة قائدها عام1970 حتي.2011 وبرغم عداء النظام لهذه الطبقة, طيلة أربعين عاما, ومحاولة تحطيمها من خلال التهجير إلي الخارج وانخفاض أجور ورواتب العاملين و ارتفاع معدلات بطالة الشباب والمتعلمين, إلا أن الطبقة المتوسطة واصلت نموها الكمي والكيفي باطراد علي مر الأعوام, كطبقة قادمة بأصولها من الفلاحين والعمال, وليس من النبلاء وكبار الموظفين كما كان عليه حال الطبقة المتوسطة القديمة قبل.1952 وحدث ذلك كله, علي عكس الدعاوي الرائجة بانقراض وانهيار مزعوم للطبقة المتوسطة خلال العقود الأخيرة. ولقد كانت طليعة الشباب الذين فجروا شرارة ثورة يناير لأول مرة في ميدان التحرير, من بين شباب تلك الطبقة المتوسطة الجديدة, بالفعل أو بالإمكان, ولم يكونوا أساسا- عمالا أو فلاحين, ولا كانوا من( رجال الأعمال). لكن الأهم من كل ذلك الآن هو الخيار الأساسي في خضم الانتخابات الرئاسية, والذي يقوم علي حدين متقابلين: الحد الأول, حد سلبي نخشاه, ويتمثل في أن يقوم شباب الثورة بمواصلة التمسك بتقاليد بعض شرائح الطبقة الوسطي قبل1952, والقائمة علي احتذاء حذو الفكر التحديثي الغربي, دون ربط عضوي للديمقراطية السياسية بكل من العدالة الاجتماعية الجذرية والتنمية الشاملة والاستقلالية الوطنية التامة. ومصدر الخشية هنا أن يأخذ بعض شباب الثورة من( الفكر الليبرالي) الغربي المعاصر عددا من عناصره الظاهرية فقط, و يركز عليها باسم دعاوي معينة, كمواجهة( الفاشية) مثلا. أما الحد الإيجابي, الذي نأمل فيه, فهو أن يذهب شباب ثورة25 يناير إلي تأكيد الارتباط القوي, الذي لا انفصام له, بين التوجه الديمقراطي وبين فكر التحرر الوطني الحقيقي, والنهوض العربي, والتنمية, والارتقاء الاجتماعي المتواصل. وما بين الخشية والأمل, يتأرجح زورق الرجاء. المزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى