المتتبع للمسيرة الإبداعية والنقدية لأحمد شمس الدين الحجاجي سيجد الخيط الجذري فيها ماثلٌ، بتجلياته المتنوعة، في مسعاه لتأصيل الكتابة السردية والدرامية الحديثة؛ بكشف الكيفية التي تسربت بها عناصرُ الثقافة الشعبية المصرية العربية إلى أنسجة نصوص تلك الكتابة. ما يعني أن العناصر الممتدة من ماضي الجماعة العربية شهدت بفعل الإبداع الحديث تحولاتٍ جعلتها أكثر قدرةً على الاستجابة لمطالب التحديث دون تخلٍ عما يصل نتاج هذا «الحديث» بجذوره الراسخة في بنية الثقافة العربية. وإذا كان سعيُ الحجاجي إلى إنتاج هذا النمط الخاص من التأصيل يستند، في جانب منه، إلى مقومات شخصية؛ كارتباط الحجاجي الحميم بأهله وناسه في صعيد مصر، فإنه يعتمد، من جانب آخر، على مقومات علمية أبرزها عملُه على دراسة الأدب العربي، لاسيما أنواعه السردية والدرامية ودراسته الأدب الشعبي، وفن السيرة الشعبية، في آن. والقارئ المتصل بمجموع كتابات الحجاجي يمكنه تبين مسعى الحجاجي لإبراز أوجه التفاعل بين الأدب العربي السردي والدرامي الحديث وأشكال الثقافة الشعبية العربية الموروثة والممتدة في الحياة العربية المعاصرة؛ كما يبدو في أولى دراساته « النقد المسرحي في مصر 1876-1923» عام 1965، التي اكتشف فيها أن تأثير القصص الشعبي على بناء النصوص المسرحية بالغ الأهمية، وأنه بحاجة إلى درسٍ نقدي متأنٍ. ومن هذا الاكتشاف بدأ الحجاجي مزاوجة دراسة الأدبين الحديث والشعبي، ومحاولة إنجاز رؤية نقدية مؤصِّلة للعلاقة بينهما، فكانت أولى وقفاته مطولة ومتأنية لدراسة العلاقة بين المسرح العربي والأسطورة، واستغرقت ثماني سنوات متصلة أنجز خلالها كتابه الرائد « الأسطورة في المسرح المصري المعاصر»(1975) الذي درس فيه أربعة عشر نصاً من المسرح، «توفيق الحكيم» (1898-1987) ل «علي سالم» (1936- 2015 )، وفي هذا الكتاب قدم الحجاجي تحليلا لتأثيرات مجموعة من الأساطير اتخذ منها الكتاب المختارون أصولا لنصوصهم، وبيَّن تأثير العناصر الأسطورية التي استلهموها في بناء الأحداث ورسم الشخصيات كاشفا الكيفيات والطرائق التي استخدمها هؤلاء الكتاب لتحويل العناصر الأسطورية إلى عناصر متجددة لإخصاب الكتابة المسرحية المصرية من ناحية، والتأثير في المتلقي الحديث والمعاصر من ناحية أخرى. ولم يكتف الحجاجي بهذا، فأكمل درس العلاقة بين تلك النصوص ومصادرها الأسطورية بتناول « الوظائف» التي منحها هؤلاء الكتاب للأسطورة، وحصر تلك الوظائف في قيم «الحرية» و«العدالة» و «الحب» وموضوع «الموت» كاشفا قدرة الأسطورة- عبر تفعيل الكتاب المحدثين لعناصرها- على الامتداد في النص المسرحي الحديث ومخاطبة المتلقي الآني بقضايا مرتبطة بواقعه الحي. وخلال انجاز الحجاجي لذلك الكتاب الضخم، الذي يُعد واحدا من أبرز الدراسات التأسيسية في دراسة المسرح العربي، أُتيح له التدريس في كوريا الجنوبية ما مكَّنه من تأمل العلاقة بين الطقوس الدينية وحياة الناس الفعلية؛ ما جعله يتوقف عند العلاقة بين الأسطورة والمسرح متخذا من وقفته تلك محاولةً لتفسير غياب المسرح بأشكاله الغربية عن الثقافة العربية القديمة والوسيطة. وبلور هذه المحاولة في كتابه « العرب وفن المسرح » (1975) وعلل غياب أسطورة إله الخصب، التي استند إليها المسرح الإغريقي عن الثقافة العربية، وانتهى إلى أن ذلك الغياب بما ترتب عليه من عدم وجود المسرح – بشكله الغربي- في الثقافة العربية الموروثة لا يعد علامة نقص في العقلية العربية. ولعل أبرز ما انتهى إليه الحجاجي في كتابه أن «فن السيرة الشعبية» كان بديلا في المجتمع العربي الوسيط وبدايات المجتمع الحديث عن فن المسرح ذي الصيغ الأوربية. وانطلاقا من هذه النتيجة ظل الحجاجي يوسِّع معرفته بالتراث الشعبي الحديث من ناحية، ويتواصل، من ناحية أخرى، مع التوجهات المحدَثة في دراسة الأدب الشعبي. وشكَّلت هذه المرحلة ما يربو على العقد من مسيرته، واستطاع خلالها حصد مجموعة كبيرة من مرويات السيرة الهلالية في صعيد مصر خاصة، وأسَّس مشروعَه لدراسة بناء السيرة الشعبية، وانتهى إلى تحديد المراحل التي يمر بها بناء بطل السيرة من قبل مولده إلى أن يستوي بطلا للجماعة تنتهي حياته بالموت. وعليه قدم كتابيه «مولد البطل في السيرة الشعبية» (1991) و« النبوءة أو قدر البطل في السيرة الشعبية» (1994). وكانت تلك المرحلة إيذانا بمرحلة تالية عليها، صاغ فيها رؤيتَه للعلاقة بين المسرح العربي والثقافة الشعبية على نحو ما يجلِّيه كِتابُه « المسرحية الشعرية في الأدب العربي الحديث» (1995) الذي انطلق فيه من رؤية تؤكد أن المسرح العربي الحديث قام على مكونين أساسيين، الأشكال الغربية التي يراها مجرد إطار عام لتوجيه الكتَّاب والمتلقين، وتأثيرات فنون الفرجة الشعبية العربية التي كانت بديلا عن المسرح في المجتمع العربي، ثم تحولت إلى مقوم فعال في تشكيل المسرح العربي الحديث. وحصر هذه الفنون في خمسة: « خيال الظل والقره قوز والسيرة الشعبية والتعازي الشيعية والمحبظين»، ووصفها الحجاجي ب « فنون المسرح الشعبي»، أو « أوليات المسرح العربي»، ورأى أن هذه الفنون قدمت للمسرح العربي ثلاثة عناصر أساسية رفدت حركة إبداع المسرح الشعري العربي منذ بداياته الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى مرحلته الأخيرة في عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. وحدد الحجاجي هذه العناصر، وهي «الغناء، والحكاية، والسرد، والقص.