فى وقت يعانى منه الاقتصاد المصري، صدرت بعض الفتاوى الشاذة والغريبة من المتشددين تحرم تحصيل الدولة ضرائب، وهو الأمر الذى انتقده بشدة علماء الأزهر ودار الإفتاء، مشددين على أن التهرب من دفع الضرائب حرام شرعا، وأن تلك الفتاوى لا تنم إلا عن جهل من أفتاها، وتتسبب فى ضرب الاقتصاد المصرى فى مقتل، وأصحابها لايعرفون شيئا عن فقه النوازل والأولويات. وأكد علماء الدين أن دفع الضرائب لا يغنى عن إيتاء الزكاة التى هى فريضة دينية عند اكتمال النصاب وحلول الحول. أما الضرائب فتنظيمات وضعية اجتهادية متغيرة تقررها الدولة الحديثة، وهى التزامات مالية تفرضها الدولة على الناس لتنفق منها على المصالح العامة كالطرق و التعليم والصحة و المواصلات والمرافق العامة. وأوضح العلماء أن الشريعة الإسلامية أجازت لولى الأمر أن يفرض على آحاد الناس ضرائب يؤدونها على أموالهم وممتلكاتهم، إذا لم يكن فى ميزانية الدولة وفاء بالحاجات الضرورية للناس. الفرق بين الضريبة والزكاة ويقول الدكتور عبد الفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن الضريبة هى فريضة مالية يدفعها الفرد إلى الدولة، مساهمة منه فى التكاليف والأعباء العامة بصفة نهائية، دون أن يعود عليه نفع خاص مقابل دفع الضريبة، والشريعة الإسلامية أجازت لولى الأمر أن يفرض على آحاد الناس ضرائب يؤدونها على أموالهم وممتلكاتهم، إذا لم يكن فى ميزانية الدولة وفاء بالحاجات الضرورية للناس، أو اقتضت فرضها المصلحة العامة للمجتمع، أو كانت ثمة ضرورة يقرها الشرع لفرضها، ومن ثم فإنه يجب على من وظفت عليه أن يؤدى ما فرض عليه منها إلى خزانة الدولة. هل يجزئ من أخرج الضريبة وأضاف: إن العلماء اختلفوا فى ذلك، فذهب جمهور الفقهاء إلى عدم احتساب المال المدفوع ضريبة من الزكاة، لما روى عن مجاهد أن ابن عمر قال فيما يأخذه العاشر من ضريبة العشور: «لا تحتسبه من زكاة مالك »، (العشور: جمع العشر، وهو ما تأخذه الدولة من عشر المال المتاجر به)، ولأن المَكْس (أى الضريبة التى يأخذها جابى العشر) لا يحتسب من الزكاة، لأن الإمام لم ينصِّب المكَّاسين لقبض الزكاة ممن تجب عليه دون غيره، وإنما نصبهم لأخذ عشور أيِّ مال وجدوه قل أو كثر، وجبت فيه زكاة أم لا، ولأن الزكاة عبادة مفروضة على المسلم شكراً لله تعالى وتقرباً إليه. وقال إن المقدار الواجب أخذه زكاة يختلف باختلاف مقدار المال الذى تجب فيه الزكاة، بخلاف الضريبة فإن مقدارها ثابت فى حق من تفرض عليهم، سواء كان لديهم مال أو لم يكن، كما أن الزكاة لا تدفع وفقا للراجح من أقوال العلماء إلا لمن كان مسلما، بخلاف الضريبة فإنه يفيد منها المسلم وغيره، كما أن الزكاة إنما تصرف لأهل بلد المزكى إن كان بها مستحقون لها، بخلاف الضريبة فقد يفيد منها أهل بلد دافعها وغيرهم. ومقصد الزكاة الشرعى هو تزكية النفس وتطهيرها من البخل والشح، ومواساة المعوزين بها، بخلاف الضريبة فلم يقصد من فرضها ذلك، كما أن جاحد الزكاة خارج من الملة بخلاف جاحد الضريبة فإنه لا يخرج بها من الملة، إلى غير ذلك من الفروق الجوهرية بينهما، والتى تجعل ما يدفع ضريبة غير داخل فيما يدفع زكاة، ولا يقع موقعه إن دفع كزكاة للمال. مشروعية فرض الضرائب وأوضح أن ما تفرضه الدولة من مال على رعاياها أو ممتلكاتهم, اتفق جمهور فقهاء السلف والخلف على مشروعيتها على القادرين من الناس, عند عجز ميزانية الدولة عن الوفاء بالحاجات الضرورية للمجتمع, ومما استدل به الفقهاء على مشروعية فرض الضريبة على القادرين عند الحاجة إليه, قول الله تعالى: « ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب «, إذ ورد النص فى الآية على إيتاء الزكاة وإيتاء المال لذوى القربى واليتامى والمساكين، مما يدل على أن المراد بإيتاء المال فى الآية غير الزكاة، وأن فى المال حقًا سوى الزكاة, ويدل لمشروعية توظيف الضريبة عند المقتضي: ما روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: « من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن القواعد الفقهية « أن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام «, وأنه « يرتكب أخف الضررين لدفع أشدهما «, ومن ثم فإن الضرر الذى يحيق بالمسلمين الذين وظفت عليهم هذه الضرائب, لا يقارن بالضرر الذى يلحق أفراد المجتمع المسلم قاطبة إذا لم يوف بحاجة المحتاج, أو لم يمكن تحقيق الأمن المادى أو المعنوى أو النفسى أو نحوها لأفراد المجتمع, فى حال عجز خزانة الدولة عن الوفاء بذلك, ولذا فإن القواعد الفقهية السابقة تجد السبيل لإعمالها حينئذ. فتوى دار الإفتاء من جانبه أكد الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتى الجمهورية، أنه يجوز لولى الأمر فرض ضرائب عادلة على المواطنين لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للأمة، مشددًا على أنه لا يجوز شرعا التهرب من دفع الضرائب كما لا يجوز دفع الرشوة لإنقاصها، فالضريبة هى مقدار محدد من المال تفرضه الدولة فى أموال المواطنين، دون أن يقابل ذلك نفعٌ مخصوص، فتُفْرَض على المِلْك والعَمَل والدخْل نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجموع، وهى تختلف باختلاف القوانين والأحوال. وأشار إلى أن ولى الأمر فى عصرنا هو مجموعة المؤسسات التشريعية وفقًا للنظام الحديث، فإن الدولة لها ما يسمى بالموازنة العامة، والتى تجتمع فيها الإيرادات العامة، والنفقات العامة، وإذا كانت النفقات العامة للدولة أكبر من الإيرادات العامة، فإن ذلك معناه عجز فى ميزانية الدولة يتعين عليها تعويضُه بعدة سبل منها فرض الضرائب. وشدد د. نجم على أنه ينبغى أن يراعى فى فرض الضرائب عدمُ زيادة أعباء محدودى الدخل وزيادة فقرهم، لأنه من القواعد المقررة: «أن الضرورة تُقَدَّر بقدرها»، فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعَى فى وضعها وطُرُق تحصيلها ما يخفف وقعها على الأفراد، كما يجب أن تُحصَّل الضرائبُ أصالةً وبنسبة أكبر من الفئات التى لا يجهدها ذلك كطبقة المستثمرين، ورجال الأعمال الذين يجب عليهم المساهمة فى واجبهم تجاه الدولة. ولفت إلى أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كان أوَّل مَن اجتهد فى فرض أموال تُؤْخَذ من الناس من غير زكاة أموالهم، لتحقيق المصالح العامة كالخراج، فالخراج واجب على كل من بيده أرض خراجية نامية، سواء أكان مسلمًا أم غير ذلك، صغيرًا أم كبيرًا، عاقلا أم مجنونًا، رجلا أم امرأة، وذلك لأن الخراج مئونة الأرض النامية، وهم فى حصول النماء سواء. وأوضح د. نجم أنه لا يجوز الاستغناء بدفع الضرائب عن دفع أموال الزكاة، وكذلك لا يجوز الاستغناء بإخراج الزكاة عن دفع الضرائب، فلا تداخل بين أموال الزكاة وأموال الضرائب، فإن لِكُلٍّ مصادره ومصارفه، فلا تغنى الزكاة عن الضرائب ولا الضرائب عن الزكاة. وذكر أن الدولة الإسلامية سابقًا كانت تنفق على مصالح الأمة من مصادر لم تَعد موجودة الآن، مثل: خمس الغنائم الحربية التى يستولى عليها المسلمون من أعدائهم المحاربين، أو مما أفاء الله عليهم من أموال المشركين بغير حرب ولا قتال، وهذه الموارد فى العهد الإسلامى الأول كانت تغنى الخزانة بما لا تحتاج معه إلى فرض ضرائب على الناس غير الزكاة، لاسيما أن واجبات الدولة حينذاك كانت محدودة، فلم يعد لإقامة مصالح الأمة مورد إلا فرض ضرائب بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها، والجمارك كذلك تعد نوعا من الضرائب المالية تُوضع على بضائع تدخل لبلاد المسلمين تقررها الدولة، وما يجمع من هذه الضرائب يدخل خزينة الدولة للمصالح العامة، ولو تركت الدول الإسلامية فى عصرنا دون ضرائب تنفق منها، لكان ذلك مؤديًا إلى خلخلة اقتصادها، وضعف كيانها من كل نواحيه، فضلا عن الأخطار العسكرية عليها، فلقد أصبح التسليح ونفقات الجيوش فى عصرنا مما يحتاج إلى موارد هائلة من المال. وفى السياق ذاته أكد أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الزكاة إنفاق فى سبيل الله تعالي، يتحملها الغنى صاحب المال ولا يحاول نقل عبئها إلى غيره، بخلاف الضريبة فإنها تقوم على أنها تكلفة من تكاليف الاستثمار فى الأغلب، ولذا فإن الممول ينقل عبئها إلى المستهلك، ليتحملها جميع المستهلكين فى أموالهم بما فيهم الفقراء والمساكين، كما يراعى فى الزكاة فرضها على كل من توافرت فيه شروط وجوبها، فلا يعفى من دفعها أحد، بحسبانها حقا من حقوق الله تعالي، الذى لا يملك أحد الإعفاء منه أو التنازل عنه، بخلاف الضريبة فقد يعفى من دفعها بعض القادرين عليها ممن فرضت عليهم لمعنى قام بهم، كما أن الزكاة تفرض فى كل مال نام أو معد للنماء، بخلاف الضريبة فإنها تفرض فى الأموال وإن لم تكن بهذه المثابة، يضاف إلى هذا أن الزكاة لا تفرض إلا فى الأموال المكتسبة من حِلِّها، بخلاف الضريبة فإنها تفرض فى كل مال ولو كان مكتسبا من طرق محرمة. وأضاف: إن القول بأن الحكومة تظلم الشعب بسبب فرض الضرائب قول من لا يعرفون فى الفقه الإسلامي، فالضرائب مال يفرضه ولى الأمر لدعم خزانة الدولة من أجل المنافع العامة للمجتمع، والضرائب تفرض على الأغنياء ثم متوسطى الدخل، وهى من الموارد لخزانة الدولة العامة فى كل زمان ومكان وبطبيعة الحال ليست زكاة، والقاعدة الشرعية تقول «حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله»، والشريعة الإسلامية جعلت الضرائب من الأمور الجائزة، ومن أفتى بذلك لا فقه لديهم ويجب على الدولة الحجر عليهم فى الأمور الفقهية، فمثل هذه الفتاوى دعوة خبيثة لتدمير الاقتصاد المصرى وتحرض أصحاب الشركات على التهرب منها ومن ثم الضرر بالاقتصاد المصري، والتهرب من دفع الضرائب حرام لأنه خيانة لأولى الأمر والله سبحانه وتعالى يقول: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم».