ما زالت الثقافة العربية تقترب ببطء من واقع الثقافات الأفريقية، حيث تحل أنماط من الدراسات الأكاديمية المهنية، محل الاهتمام الثقافى المجتمعى، وتحل «الفُرجة» محل المعايشة. ولابد أن نعترف أن ثمَّة تقدما ملحوظا فى الاقترابات المطروحة والتى آمل ألا تكون موسمية، وهى اقترابات تتجاوز إلى حد ما، ما ألفناه من القول عن انتشار أو» نشر» الثقافة العربية والإسلامية فى القارة «! أو «مهمة التنوير والتحضر التى قامت بها «أجيالنا التاريخية» بما يشبه أحيانا مارددته الدوائر الاستعمارية عن «العبء الحضارى» فى القارة السوداء! لكنا بتنا الآن نقرأ ترجمات للأدب الأفريقى، ونشاهد بعض الإنتاج السينمائي، ولو موسميا، ونسعد مع كثيرين لحصول هذا أى أفريقى على جائزة نوبل العالمية! لكنا مازلنا لانتوقف عند كون عالمية المنتج الثقافى «الأفريقي» سبقت كثيرا منتجنا العربى إلى العالم، لمن يرصد حركة الترجمة، أو أن «ماريام ماكيبا» سبقت «أم كلثوم» إلى العوالم الثقافية المختلفة. من أين إذن هذا القصور فى اقترابنا من الثقافات الأفريقية؟. قد يرجع لغلبة «السياسى» على «الاجتماعى» و»الثقافى» لفترة مع ازدهار العلاقة نفسها مع «الدول» الأفريقية وحركات التحرير، لكن هذا وحده لا يكفى لتفسير وضع الثقافى فى العلاقات مع أفريقيا. فى ظنى أنه بدأ بمفهومنا نفسه عن هذه الثقافات. فهو دائما أكثر ارتباكا من معالجة أبعاد «الثقافة العربية» نفسها، من حيث التصور المثالى لوحدة الثقافة بكافة جوانبها، وفى جميع مواقعها، دون تصور أن مبدأ التنوع والوحدة، يسرى على الثقافات مثله على الآراء، والعادات. وهذا ما نعانيه فى الثقافة العربية نفسها فما بالك بالثقافات الأخري؟. أول مشكلاتنا إذن هو المفهوم «المطلق» أو المثالى للثقافة كمنتج موحد بين الشعوب العربية أوالأفريقية. ولن نعرض هنا لمشاكل فهم الثقافة «العربية» بين القديم والجديد، أو بين الآسيوى والمصرى والشمالى الأفريقي، ولكنا نجد أن نفس القضايا تحوم بأسلوب آخر حول «المطلق الأفريقي».. وهنا نواجه بداية التعسف فى فصل العربى عن الإفريقى بالجملة، ومع ذلك قد يشمل هذا التعسف أيضا القول بتقسيمات «الزنوجى» فى غرب إفريقيا و»البانتو» فى جنوبها و»النيلى الحامي» فى شرقها، لنصعد إلى السامى والقوقازى فى شمالها! فاذا قدمت من العرقى والجغرافى، فسوف تدخل فى حداثه الفرنكفونية والإنجلوفونية والليزوفونية. وإن كان كل هذا يستدعى مبدئيا الاعتراف بثراء غير محدود، كفيل بتنوير عن شعوب القارة.. غير محدود أيضا. إذن، أمام هذا التنوع، لا يفيدنا كثيرا أن نأخذ النمط «الثقافى الأفريقي» من هذه المنطقة أو تلك كمفهوم مطلق أيضا، لنقول بتميز «الثقافة الزنجية» بهذه الصفة أو تلك، مما فعله فلاسفة أفارقة بأنفسهم، مثل فلسفه»سنغور» الشهيرة عن «الزنوجة» (النجريتيد)، أو فلسفة» «جمال حمدان «عن «شخصية مصر» أو مقولات «نكروما» عن «الوجدانية»،» وسيكو توري» عن «الشخصية الأفريقية» أو «مفاليلي» عن «صورة الافريقى».. أو عن «العقل العربي» عند «عابد الجابري» فهؤلاء مفكرون «أفارقة». انتقلوا من مدارس الأنثروبولوجيا الكولونيالية إلى مدارس الرومانسية أو المثالية الأفريقية، ليتطور التحليل نسبيا على أيديهم. لكننا نظل أسرى المسافة القائمة للفهم المتنوع عن الثقافات الأفريقية. ثمه إذن ضرورة للاقتراب بما يتجاوز ذلك بعد كل عقود الرومانسية، إلى مفهوم الثقافة الشامل لأنماط الحياة، ومناهج التفكير والتعليم والفنون، وكوزمولوجيا الإنسان المتنوعة فى القارة، فضلا عن أساليب ومراحل التطور وصلته بتطور الأشكال الاجتماعية أو جمودها، وانماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمعارف السائدة. إن دراسات عن أشكال «الحضور والتحقق» فى الحياة لدى الشعوب الأفريقية المختلفة بل وفئاتها المختلفة، والتى تقدم معنى الثقافة الحقيقى، كفيله بأن توفر لنا الكثير عن الحياة الاجتماعية، وأين يلتقى الشمالى مع الجنوبى أو يفترقا.. إننا قد نعتنى أحيانا عناية خاصة بمنتج «الدياسبورا» الأفريقية فى الأمريكتين، مع أن منتجا آخر ينتشر فى أوروبا، بين من تلاحقهم لعنه «المهاجرين الأشرار»... وقد ننسى أن ثمَّة ثقافات أفريقية أخرى وصلت البلدان العربية مع الملايين التى استجلبت من أنحاء القارة وبرز من بين أبنائها» عنترة»، «والجاحظ»، وغيرهما، وإذ بنا نتجاهل استمرار الدراسة لتشمل متابعة مظاهر مثل «الزار» الحبشى أو السلم الخماسى والرباعى وآثاره فى الموسيقي، ولابد أن أنوه هنا بدراسات للراحل «عبده بدوي» عن الشعراء السود وحضارة السود. «الثقافات» الأفريقية بمفهوم التنوع والوحدة، لا تستحضر فقط بعض الفنون الشائعة فى الرقص أو الغناء أو حتى التشكيل، ولا هى أعمال السحر والشعوذة، وقصص الأطفال الساذجة، وانما تستحضر الملاحم الكبرى عن «سونجانا» من مالى و»واجادو» من «السنغال» والفوتا جالون، «والشاكا» من الزولو..إلخ. وكما نستحضر بالتقدير الدينى التقليدى «عثمان دان فوديو»، «والكانمى» كمجاهدين وإصلاحين دينيين، فإننا لابد وأن نستحضر فى الثقافات والفكر الأفريقى «شيخ انتاديوب»، «وعيسى شيفجى»، «وياش تاندون» مع «سمير أمين» و«مالك بن نبى» و«أميناتا تراوري» و«فاطمة المرنيسى»، وغيرهم، وقد يكون كل من هؤلاء معروفا لذاته، ولكنا للأسف لا نستحضره كنموذج لإسهام الثقافات الإفريقية فى عصر الحداثة والتنوير. ما أراه من عدم معالجة قضايا «الثقافات الإفريقية»، حتى بمنهج اقتراباتنا الأحدث فى الثقافة العربية، لا أجد له مبررا، مع موجة الاهتمام القائمة «بأفريقيا» كما يصورها الإعلام فى مصر. فثمة قضايا الثقافة الشعبية والرسمية، والموروث والوافد، ومفهوم الغزو الثقافى أو التكامل أو الاندماج أو الانفتاح، مما عانت منه المناطق المسماة بالفرنكفونية مثلا مع الفرنسيين أو الارتباك أمام السواحيلية أو الهوسا إزاء الثقافة العربية، وهى تثير فى مناطقها جدلا مثل ما بين الأمازيغية والعربية فى الشمال الإفريقي. وقد نبدو مع مواقف تحليل هذه القضايا إيجابيين فى شرق أفريقيا، وسلبيين فى شمالها، لعدم القدرة على تأكيد مناهج تفاعل الثقافات والخروج من المركزية العربية الرثَّة فى أحيان كثيرة! تبقى بعض المشاكل المهمة التى تحتاج لمعالجات مستفيضة مثل التأثير والتأثر بين الثقافات العربية والأفريقية، والتى توضع عادة للأسف فى أطر تسييس البحث فى العلاقات العربية الإفريقية بعد انتقالها من التحرر الوطني، إلى الاقتصاد البترولى والتضامن فى مواجهة الإفقار، إلى العلاقة بالثقافة فيما يسمى «بالقوة الناعمة»!. كم أود أن توقف البحث العربى عن الثقافات الأفريقية بهذا المنهج مع أننا جميعا نقع بين براثنه لنفسد عمليا أجواء الالتقاء والتفاعل. وكم فاجأنى وأنا أقلب فى التراث «الثقافى الأفريقى» ما كتبه مفكر راحل مثل «والتر رودنى» عن دهشة الرحالة البرتغاليين والهولنديين فى القرنين السابع والثامن عشر أمام مستوى «التحضر» فى عمران مدينة «بنين» عاصمة مملكتها، وذلك الفرنسى الذى دُهش أمام طلعة «الشاكا» الإمبراطورية، وبالمقابل اندهشت من معالجة «ابن بطوطة» لوجوده فى أرض «مللي» أو مالى القديمة، وعدم فهمه الدقيق لشكل المجتمع ولا السلطة هناك. وبالمثل يدهش من يقرأ ملحمة «سيف بن يزن» عن تكليف البطل لابنه بإحضار «كتاب النيل» من الحبشة، كمطلع لملحمة شهيرة فى العالم العربي، كتبت حوالى القرن الرابع عشر وفى جو تحارب بالمنطقة، بينما تلفتنا تلك الوثائق من ممالك «كانم برنو» عن صله أصولهم القديمة بسيف بن يزن نفسه القادم من بلاد اليمن فى جو آخر من المودة! أو كيف ترد ملحمة «واجادو» على التفكير الشائع عن إسقاط مملكة «مالى» الإسلامية لمملكة غانا الأفريقية، بينما التطور التفاعلى المعروف أيضا يرد وفق مبدأ «تفاعل الثقافات» لا غزوها المتبادل، مع وعينا بالحالة الاستعمارية الحديثة التى تتطلب مناهج دراسية ومتطلبات أخرى كاشفة بالتأكيد. وقد واجهت ذلك بنفسى، فى بحث لى موسع عن مخطوطات اللغات الأفريقية بالحرف العربى أو ما يسمى «بالعجمى».. وإذ بى أفاجأ بأنى جمعت عشرات المخطوطات من ست عشرة لغة إفريقية، تعبر عن أحوال معيشية خاصة، مدونة فى لغتها بالحرف العربي، وباستقلالية واضحة عن الاندماج الكامل بالحالة العربية، وإن استفادت منها هذه الثقافة أو تلك كثقافة جديدة قد تكون أوفر تعبيرا عن مشاكل كالتجارة أو الاتصال بالعالم العربى الذى كان صاعدا!. ها نحن فى صعود جديد للعلاقات، آمل فيه مزيدا من الانتباه لتنوع الثقافات الآفريقية التى نتابع تفاعلها ومن أجل تفاهم إفريقى عربى أفضل.