لم تعد الحروب تُدار فقط بالجيوش النظامية، ولا تُخاض باسم الأوطان وحدها، بل باتت تُدار أيضاً بتجار الموت، ومقاولى القتل، بمرتزقة لا يحملون أعلاماً ولا يعرفون معنى الوطن، يدخلون الحروب من أبوابها الخلفية، يقاتلون حيث تُفتح الخزائن. وفى قلب هذه العودة المظلمة لأقدم مهنة فى التاريخ - مهنة المرتزقة- يقف السودان سوقًا مفتوحة تُذبح فيه الأرواح قرباناً لليورانيوم، وتُقايَض الطفولة بالذهب، وتتقاطع تجارة السلاح، مع دماء الأبرياء، وتُدار المأساة وفق منطق العرض والطلب فى أسوأ الكوارث الإنسانية فى العالم المعاصر. أعادت صحيفة الجارديان فتح أحد أكثر الملفات فظاعة، مئات المرتزقة الكولومبيين يقاتلون فى صفوف قوات الدعم السريع، لا كمقاتلين فقط، بل كمدربين للأطفال. نعم، أطفال يُدرَّبون على إطلاق قذائف آر بى جى، ليُدفعوا إلى خطوط الموت. أحد المرتزقة حكى عن أنه وصل السودان عن طريق شبكة وسطاء، بعقد شهرى 2600 دولار، رحلة عبر أوروبا وإثيوبيا والصومال، قادته إلى الفاشر فى دارفور، التى تحولت إلى مركز عمليات لهؤلاء المرتزقة. لم تكن مهمته الأولى القتال، بل تدريب فتيان لم يمسكوا سلاحاً من قبل، ليدخلوا بعدها الجبهة ويموتوا، غادر السودان بسبب مشاكل فى الرواتب، ومعه 30 من زملائه، بينما كانت الطائرات تصل بمرتزقة جدد يحلون محلهم، آلة موت لا تتوقف! أحالت الصحيفة جذور «ظاهرة المرتزقة» إلى الصراع الكولومبى الطويل، الذى خلّف فائضاً هائلاً من المقاتلين المحترفين، مما جعلها واحدة من أكبر «مصدرى المرتزقة» فى العالم، لكن الشركات الخاصة لم تعد تكتفى بالمتقاعدين، بل باتت تُجنّد من على رأس الخدمة فى مناطق الفقر، مقابل آلاف الدولارات، وهكذا تحول الفقر إلى مصنع بشرى لإنتاج المرتزقة. الصراع فى السودان يا سادة.. لم يعد من أجل «السلطة» فقط، بل لإعادة رسم خرائط النفوذ على مخزونها الاستراتيجى، حرب بالوكالة تحول فيها الإنسان إلى سلعة، ومشروع اقتصادى منظم، له سماسرة، وموردون، وقوائم رواتب! الأطفال صاروا يحملون البنادق بدلاً من الكتب المدرسية. والأرض التى كانت تُنبت قمحاً، أضحت تنبت قبوراً، والمرتزقة الذين جاءوا بلا أسماء ولا وجوه يغادرون بلا قبور، لكنهم يتركون خلفهم جيلاً كاملاً يتعلم القتل قبل أن يتعلم الكلام! هنا، يصبح السؤال الأكثر إلحاحاً: إلى متى سيظل العالم يتفرج على تحويل الحروب إلى أسواق مفتوحة، والأطفال إلى ذخيرة بشرية، والدم إلى وسيلة تداول؟!