إختار نبيل العربى ألا يطلب تجديد مدته أمينا عاما للجامعة العربية، وهكذا يترك منصبه بعد خمس سنوات فقط، وهى أقل مدة مكث فيها الأمين. فقد كان المتوسط بين الأمناء الذين سبقوا العربى وهم ستة هى المكوث مدتين، أو عادة عشر سنوات، الشاذلى القليبى وهو غير المصرى الوحيد الذى تولى هذا المنصب فى ظروف استثنائية بسبب إضطرار الجامعة إلى تعليق عضوية مصر ومغادرة المقر الدائم فى القاهرة احتجاجا على إتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية فى 1979، إستمر فى منصبه أكثر من إحد عشر عاما (مارس 1979 إلى سبتمبر 1990، وكان من الممكن أن يستمر سنوات أكثر لولا عودة الجامعة إلى مقرها الدائم. أما ثانى أمين عام للجامعة، عبدالخالق حسونة فقد إستمر فى منصبه نحو عشرين عاما: سبتمبر 1952 يونيو 1972. المراقب من الخارج إذن يرى أن سلوك العربى ذو مغزى خاص، فقد يفسره البعض على أنه تأكيد للآراء التى تعتقد أن بيت العرب ليس بالمستوى المطلوب لمواجهة التحديات الضخمة والمتزايدة التى تواجه المنطقة العربية، منذ مدة طويلة والتى تصل الآن إلى مستوى الأزمة الحادة، أزمة مؤسسة وأزمة نظام. أهم أسباب هذه الأزمة أن المؤسسة لم تحاول بالمرة أن تتطور مع عالم ومنطقة يتغيران بسرعة مدهشة. فالمعروف أن الجامعة هى فعلا من الرعيل الأول للمنظمات الاقليمية، حيث إن ميثاقها نفسه فى 1944 يسبق الأممالمتحدة التى أنشئت فى 1945 تعدى عمر الجامعة، إذن سبعين عاما. دون أن تحاول أن تجدد نفسها. ولنتذكر ما قاله العربى فى القمة العادية الثالثة والعشرين فى بغداد فى مارس 2012: «إن ميثاق جامعة الدول العربية لايزال حتى هذه اللحظة يعكس مفهوم وفلسفة الجيل الأول من المنظمات الدولية الذى يمثله عهد عصبة الأمم.. وبناء عليه لابد للجامعة من مواكبة المتغيرات والتطورات الدولية للإرتقاء بإمكاناتها وتأهيلها للإضطلاع بالمسئوليات الجديدة فى عالم عربى متغير». هو عالم عربى متغير فعلا، فقد بدأت الجامعة مع سبع أعضاء مؤسسين، وهم الآن 22 أى أكثر من ثلاثة أضعاف. كما أن موازين القوى تغيرت عالميا وعربيا. إنتهت الحرب الباردة، إختفى الاتحاد السوفييتى، تفكك العالم الثالث إلى تجمعات دولية مختلفة، تدهور وضع الدولة القومية فى مواجهة فعالين دوليين غير الدول، ظهر إعلام المواطن مع ثورة الاتصالات وجمهورية الفيسبوك.. وتكثر بنود قائمة التغير العالمية. على مستوى المنطقة العربية، ليس بنود التغيير أقل عددا بالمرة، وليس فقط منذ 2011، فمثلا إسرائيل التى هى دائمة الإدراج على أجندة الجامعة ومؤتمراتها على كل المستويات إستتبت فى المنطقة، وذو علاقات دبلوماسية رسمية مع العديد من الدول العربية، وعلاقات غير رسمية مع عدد أكثر من المغرب الأقصى إلى بعض دول الخليج، ومع إن الجامعة تتشبث بالسيادة الوطنية، فهى قامت بإعطاء الضوء الأخضر لتدخل الناتو فى ليبيا فى بداية ثورتها. ثم إن بعض الدول العربية يندرج أكثر وأكثر فى قائمة الدول الهشة الفاشلة، وفى الحقيقة فإن تطبيق هذا المقياس ذى ال 12 مؤشرا يؤدى إلى صورة مخيفة عن الوضع العربى العام، يكفى أن نعرف أنه إذا توقفت الحرب السورية الأهلية هذا اليوم فإن هذه الدولة الشقيقة ستحتاج إلى 39 عاما لمجرد الوصول إلى مستوى التنمية الانسانية الذى أحرزته فى 2010. لم يقتصد هدير التغيير على الدول بل تعداها إلى المجتمعات العربية نفسها، ولا داعى لتفصيل ما حدث فى هذه المجتمعات منذ خمس سنوات فقط، بل نقتصر على مثل واحد فقط وهو تزايد الانتفاخ الشبابى، فالمجتمعات العربية مجتمعات شابة فتية، حيث يبلغ فئة من هم أقل من 29 عاما نحو ثلثى السكان فى هذه المجتمعات. وبالطبع الخاصية الشبابية ليست فقط ناحية عمرية رقمية ولكنها خاصية إجتماعية قبل شئ، وقد تصبح طاقة ورصيدا للمجتمع، أو على العكس تكون عبئا وخطرا إذا لم يتم التعامل معها وتوجيهها وإستخدامها. ولذلك فليس غريبا أن الاتحاد الأوروبى يخصص فى الثلاث سنوات الأخيرة نحو 3.2 مليون يورو لأبحاث عن الشباب فى منطقة البحر المتوسط، وخاصة الجزء العربى منها. فى برنامج المحاكاة الذى ننظمه فى الجامعة الأمريكية عن أحوال الجامعة، تحدياتها وسبل تطورها، هالنى الحماس الذى يشعر به طلابنا فى بداية الدورة، وهالنى أيضا خيبة الأمل التى يشعرون بها بعد ذلك، بالرغم من وجود إمكانات مالية وبشرية فى هذه المؤسسة. . الرد المتكرر من بعض القائمين على الجامعة هم أنهم فى غلبة من أمرهم لأنهم إنعكاس للأحوال العربية العامة وما يقرره أولى الأمر من الحكام والساسة، وهذا بالطبع صحيح، وفى الواقع ينطبق على كل منظمة دولية، بما فيها الأممالمتحدة، الاتحاد الافريقى أو الاتحاد الأوروبى. كيف واجهت هذه المنظمات ما نستطيع أن نسميه معضلة «القرار من أعلى»؟ أولا: حاول بعض الساسة وحتى الوزراء تصحيح معلوماتى ليقولوا إن المشكلة فى عديد من هذه المنظمات ليست القرار من أعلى ولكن «القرار من أسفل»، بمعنى أوضح يتبرم هؤلاء الساسة من أنهم يجتمعون على فترات دورية متباعدة، بينما موظفو المنظمة هم من يديرون أمورها يوميا، وبالتالى يقومون بتطبيق «القرارات العليا» حسب رؤيتهم هم، بمعنى أن معظم القرارات العليا هى قرارات عامة تترك الكثير من المرونة فى التطبيق.ثانيا: حتى إذا لم ينطبق هذا حرفيا على الجامعة، فلماذا لم تحاول المنظمة التحرر مما نستطيع أن نسميه «تحديات السياسة والسيادة»، أى التوجه إلى مجالات أقل حساسية يكون فيها الانجاز أقل فى تكلفته وأسرع فى وتيرة القيام به. فى الواقع هذا هو أساس «نظرية التكامل الإقليمى» أو ما نسميه الوظيفية، أى محاولة الانجاز فى مجالات مثل النواحى الإقتصادية أو العلمية، أنشأت الأممالمتحدة مثلا جامعة الأممالمتحدة التى تقوم بإستضافة الباحثين ليقوموا بتحليل إشكالية معينة ثم مناقشة نتائج هذه الأبحاث على المستوى الدولى، دون أن يتكلموا بإسم المنظمة الدولية أو أحد أعضائها. كما يقوم الاتحاد الأوروبى بتمويل أبحاث علمية فى مسابقات نزيهة ومجزية وتكوين فرق أبحاث عالمية فعلا لاتقتصر على الرعايا الأوروبيين فقط، وكذلك تقوم بروكسل بعقد ورش عمل وجماعات عصف ذهنى للمناقشة فى حرية تامة، يحضر بعض القائمين للمؤسسة ورش العمل هذه ويتوجهون بالأسئلة، ولكن دون محاولة توجيه النقاش أو الحجر على الآراء حتى أكثرها بعدا عن التوجه السياسى للمؤسسة. لماذا تقوم مثل هذه المنظمات الدولية والإقليمية بهذا العمل وتصرف مثل هذه الأموال؟ هناك على الأقل ثلاثة أسباب: 1 مواجهة مشاكل حادة غير طابع سياسى مباشر، وذلك بالمشاركة والتواصل مع غير السياسيين، . 2 التواصل مع الجماعات العلمية يساعد على المعرفة وترشيد القرار عن طريق الاعتماد على رأى الخبراء بدلا من الارتجال. 3 ضمان حضور هذه المنظمات على مستوى المجتمع وفئاته المختلفة. وليس فقط على مستوى المصالح السياسية الضيقة. يغادر «إبن العربى» بيت العرب مبكرا وقد يشعر أن طموحاته كانت أكثر بكثير مما تحقق، فهل يكون «أبوالغيط» أكثر حظا؟ لمزيد من مقالات د.بهجت قرني