من حق أى رئيس دولة القيام بزيارات وجولات إلى أى دولة أخرى بحثا عن تحقيق المصالح المشتركة. ولكن عندما يكون الأمر متعلقا بتركيا ورئيسها رجب طيب إردوغان، أحد الأسباب الرئيسية للتوتر فى منطقة الشرق الأوسط، فالقلق مشروع من جولته الإفريقية الأخيرة، ومن حق الجميع أن يسأل عن المغزى الحقيقى من وراء هذه الجولة، ولماذا تأتى فى هذا التوقيت بالذات. جولة إردوغان فى منطقة غرب أفريقيا شملت كوت ديفوار وغانا ونيجيريا وغينيا، وهى الدول الأربع الأعضاء فى المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "إيكواس" التى تشكل مركزا للنفوذ الاقتصادي. الجولة شهدت إبرام اتفاقيات اقتصادية مع الدول الأربع بمليارات الدولارات، والهدف المعلن هو تعزيز علاقات المشاركة الاستراتيجية بين تركيا ودول القارة السمراء، ولكن الهدف غير المعلن بطبيعة الحال هو مساعى أنقرة لتنويع شركائها وتوسيع نفوذها وقاعدة علاقاتها السياسية والاقتصادية لتعويض حالة العزلة الإقليمية الشديدة التى تعانى منها أنقرة الآن. وفى الوقت نفسه، تأتى الجولة التركية فى وقت متأخر نسبيا عن باقى دول العالم مثل الصين وكوريا الجنوبية، التى وجهت أنظارها منذ وقت مبكر إلى أفريقيا، منبع الثروات البشرية والاقتصادية، وتأتى أيضا فى محاولة للحاق بهذا الركب الدولى الطامح لاستغلال الثروات. ففى كوت ديفوار، الشريك الأكبر لتركيا على الصعيد التجارى فى دول جنوب الصحراء الكبرى، وقع إردوغان خلال جولته الأخيرة على 9 اتفاقيات اقتصادية بهدف زيادة التبادلات التجارية بين البلدين لتصل إلى مليار دولار بحلول عام 2020، كما تناولت الاتفاقيات تعزيز حماية الاستثمارات والمجالات الضريبية فى الإطار القانونى لتنمية الأعمال بين الأتراك والإيفواريين. ولم تكن الاتفاقيات الاقتصادية هذه بين أنقرة وأبيدجان الأولى من نوعها، فقد زادت الاستثمارات التركية فى كوت ديفوار من 150 مليون دولار عام 2008 إلى 390 مليون دولار العام الماضي. وفى غانا، سعى الرئيس التركى إلى توسيع دور بلاده دبلوماسيا واقتصاديا فى الوقت ذاته، حيث أعرب عن استعداده لمساعدة دول غرب أفريقيا فى مكافحة الإرهاب المتنامى بموجب مشاركة إستراتيجية جديدة، بهدف تعزيز التبادل التجارى والعلاقات الأخرى مع القارة، رغم أن هذا التصريح التركى بشأن التعاون فى مجال الإرهاب مثار للسخرية بسبب ما هو معروف عن دور تركيا فى أحداث كثيرة فى مصر وسوريا والعراق وليبيا. وعلى الرغم من أنها المرة الأولى من نوعها التى يزور فيها رئيس تركى كوت ديفوار وغينيا، فإنها ليست المرة الأولى التى يزور فيها إردوغان أفريقيا، بل قام بعدة جولات فى السنوات الأخيرة، ففى العام الماضي، زار إثيوبيا وجيبوتى والصومال لتوسيع الوجود والنشاط التركى فى القارة. ونظرا لأهمية موقع الصومال الجغرافى الذى يربط بين القارات، وباعتبارها ممرا مهما للطاقة فى العالم، إضافة إلى الثروات الكثيرة التى يمتلكها الصومال ومخزونها من البترول، فقد اعتبرت تركياالصومال البوابة الأوسع لها فى سعيها لتوسيع نفوذها بإفريقيا ، كما ساعد الحراك التركى فى أفريقيا بإقامة قاعدة عسكرية تركية فى الصومال - بعد إقامة قاعدة فى قطر - فى الكشف عن الأبعاد "الجيوسياسية" المهمة التى تنتهجها سياسة إردوغان إزاء القارة الإفريقية. ففى الوقت الذى انشغل فيه العالم أجمع عن المجاعة والمأساة الإنسانية التى تعيشها الصومال، كان إردوغان عام 2011 أول زعيم غير إفريقى يزور الدولة الفقيرة خلال نحو 20 عاما، فاتحا الباب أمام مساعدات إنسانية واقتصادية وتنموية تركية غير محدودة للصومال. ويرى محللون أن القاعدة التركية العسكرية فى الصومال وتوجهها لتدريب أكثر من 10 آلاف جندى صومالى ستكون بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجى سياسيا وجغرافيا مدخلا مهما لبيع السلاح التركى فى القارة السمراء وفتح أسواق جديدة للصناعات الحربية التركية التى تشهد تطورا سريعا فى السنوات الأخيرة. ومن المرجح أن يقوم إردوغان بزيارة أخرى للصومال هذا العام لاستكمال عدد من المشروعات التركية المتعلقة بقطاع التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية والمطارات والموانيء، إلى جانب افتتاح السفارة التركية بعد أن تم الانتهاء من بنائها. ونظرا لما تمثله جيبوتى من أهمية إستراتيجية، تسعى تركيا لإنشاء قواعد اقتصادية فيها، سعيا وراء تحقيق توقعات بأن تصبح جيبوتى فى المستقبل نسخة أفريقية من هونج كونج. وتعد العلاقات الحالية بين أنقرة والدول الأفريقية استكمالا لسلسلة الجهود التى أجرتها تركيا لأول مرة منذ عام 1998 عندما قررت زيادة حجم تجارتها مع الدول الأفريقية فى أعقاب الحرب الباردة. ففى عام 2003، أطلقت وزارة التجارة الخارجية استراتيجيتها لتطوير العلاقات الاقتصادية مع أفريقيا، ومنذ ذلك الوقت عززت تركيا وجودها فى القارة. ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، عمل الرئيس التركى وأحمد داود أوغلو رئيس الوزراء الحالى – والذى يعتبره البعض صاحب سياسة توسيع نفوذ تركيا عالميا - على تعزيز العلاقات مع أفريقيا بشكل كبير، فقد تمكنت أنقرة منذ عام 2009 وحتى اليوم من مضاعفة أعداد سفاراتها فى القارة الإفريقية ثلاث مرات حتى بات هناك 35 ممثلا دبلوماسيا لتركيا هناك بعد أن كان إجمالى عدد السفارات فى القارة 12 سفارة فقط، كما زادت السفارات الأفريقية فى أنقرة من 10 إلى 28 سفارة خلال السنوات الخمس الماضية. ويرى محللون غربيون أن إردوغان يحاول من خلال التقارب مع أفريقيا تعويض الخسائر التى لحقت ببلاده بعد اندلاع ثورات ما يسمى ب"الربيع العربي"، وتوتر العلاقات مع روسيا، ومع باقى جيرانه مثل مصر وسوريا وإسرائيل والاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلنطى "الناتو"، فى محاولة لتعزيز نفوذ بلاده السياسى والدبلوماسى حول العالم. وأيا كانت الأسباب، فالتوغل التركى فى أفريقيا بحثا عن دور يجب أن يثير القلق، خاصة مع تنامى ظاهرة الإرهاب فى منطقة غرب أفريقيا، وهى نفس المنطقة التى تزخر أيضا بالثروات البترولية والمعدنية.