عندما طلب إلي الزميل والصديق سمير صبحي أن أكتب عن هيكل والصحافة ترددت طويلا لأسباب عديدة: أولها: أنني بصدق وبدون إدعاء لا أجد نفسي مؤهلا لتحمل هذه المسئولية والخوض في تفاصيلها ومناقشتها بطريقة موضوعية. فالتقلبات التي شهدتها الصحافة في مصر منذ بداية القرن, تملي علي أي كاتب أن يتسلح بقر كاف من الدراسة لأحوال الصحافة المصرية, وأن يتريث في اصدار أحكامه بقدر كبير من التحفظ والحذر. وهو لابد أن يكون أكثر حذرا ودقة حين يحاول أن يضع هيكل في السياق التاريخي من تطور الصحافة المصرية خصوصا والعربية عموما. ثانيها: أن هيكل كان شاهدا ولم يزل, وإن من مواقع مختلفة, علي حقبة حافلة من حياتنا السياسية. ولم يكن في بعض الظروف مجرد شاهد, بل كان قبل ذلك وبعد ذلك فاعلا ومؤثرا بل وصانعا لقرارات حددت مصير الصحافة في مصر, وصاغت توجهاتها,ولونت أساليبها, وأعادت إنتاج اهتماماتها, وأثرت علي مستقبل أجيالها من الصحفيين. ثالثها: أن هيكل لم يقل كلمته الأخيرة بعد, علي الرغم من أنه لا يمارس مهنة الكتابة الصحفية بصفة منتظمة في الصحف المصرية. ولكن وجوده داخل المشهد الصحفي, يجعله أشبه ب الأومبودزمان في الدول الاسكندنافية, أي أشبه بضمير المهنة أو الحكم الذي يلجأ إليه في الأزمات, وينتظر رأيه في الملمات.. وهناك إحساس غامض بأن الوقت لم يفت بعد, لكي تشهد الصحافة المصرية مفاجأة غير متوقعة, يعود هيكل من خلالها إلي ممارسة مهنته كصحفي في قلب الأحداث وليس مراقبا لها.. أن يجلس هيكل في مقعد القيادة لمشروع صحفي كبير, يعيد ولادة الصحافة المصرية لتواكب متغيرات القرن الحادي والعشرين, بكل ما يبشر من ثورة تكنولوجية ومعلوماتية.. أو علي الأقل هذا ما يتمناه أو يحلم به كثيرون. غير أن أي حديث عن هيكل والصحافة لابد أن يتشعب في اتجاهات مختلفة بحكم الأدوار والمسئوليات التي قام بها.. وهو في كل دور من هذه الأدوار يقف منتصبا طويل القامة, متميزا بكل المقاييس في تطلعه الحثيث نحو الاكتمال والشموخ الذي يضفي علي المهنة ويعطيها أكثر مما يأخذ منها. وعلي الرغم من أن هيكل قد شهد سنوات تكوينه الأولي في مدرسة صحفية تختلف في أساليبها وإتجاهاتها عن مدرسة الأهرام, إلا أنه نجح في تطوير العمل الصحفي والارتقاء به إلي مستويات عالمية, فاحتفي بصحافة الخبر قدر احتفائه بصحافة التحليل والتقرير والتعليق.. وجعل من أسلوب الكتابة والعناية بجمال اللغة بجمال اللغة وموسيقي التعبير شكلا راقيا من أشكال الكتابة الصحفية.. جعلت من هذه الكتابة فنا أدبيا قبل أن يكون فنا إعلاميا أو عملا سياسيا بحكم الامتزاج الشديد بين الصحافة والسياسة. وفي ظروف أخري وعلي يد كتاب وصحفيين آخرين, لم يكن المقال الطويل الذي يملأ صفحة كاملة بالأمر الهين الذي يستسيغه القارئ ويقبل عليه. وأعتقد أنه بتوقف هيكل عن كتابة مقاله الأسبوعي العتيد بصراحة انتهت حقبة من الكتابة الصحفية يصعب أن تعود, وكل محاولة لتقليدها والجري علي نهجها باءت بالفشل حتي الآن. ولعل أهم ما يميز هيكل كرئيس تحرير لصحيفة كبري, هو قدرته الفائقة علي الالمام بتفاصيل العملية الصحفية, واهتمامه بدقائقها التي تبدو للكثيرين أهون من أن تستحق الاهتمام والمتابعة.. ويبدو أن هيكل كان حريصا في كل تصرفاته علي أن يعطي المثل والقدوة للأجيال القادمة, وأن يضع نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه الصحفي من إلمام شبه كامل بمعطيات العمل الصحفي, وبما يدور في العالم المحيط بنا.. وكانت عين هيكل دائما علي ما تشهده الصحافة العالمية من تطورات سريعة متلاحقة, وأن يقود العاملين معه من صغار وكبار الصحفيين في اتجاه المستقبل واحتمالاته وآفاقه, وعلي الرغم من الأثقال الشديدة التي كانت تضغط قادمة من خلال أصداء الماضي وأعباء الحاضر وتعقيداته. ويبقي أن يقال في هذه العجالة أن هيكل قبل الأهرام, وفي الأهرام, وبعد الأهرام, تغلبت عليه انسانيته قبل مهنته. فلم يضح بالعامل الانساني في سبيل كسب صحفي أو سبق مهني. بل ظل في كل الأحوال إنسانا أولا وصحفيا ثانيا وسياسيا ثالثا.. مهما تعددت أو تعقدت الظروف.